التعصب.. مفسد للدين والدنيا
التعصب؛ سواء كان فكريًا، أو سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو متعلقًا بموقف أو بشخص، له أسباب عامة مشتركة تقف وراء هذه الظاهرة
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
في موضوع شائك كهذا، تبدو الحاجة أكثر إلحاحًا إلى الوقوف قليلا مع تعريفات ومضامين المفاهيم التي نحن بصددها؛ حتى ننطلق من أرضية واضحة في المعالجة والحوار.
أما التسامح فهو من اللين والسهولة؛ يقال: سمح- سمحا وسماحا وسماحة: لان وسهل، وانقاد بعد استصعاب (1). وهو: سعة صدر تفسح للآخرين أن يعبّروا عن آرائهم ولو لم تكن موضوع تسليم أو قبول. ولا يحاول صاحبه فرض آرائه الخاصة على الآخرين (2).
وأمّا التعصب، فهو من عصب اللحم بالكسر، أي كثر عصبه. وانعصب: اشتد. والعصب: الطي الشديد. وعصب الشيء يعصبه عصبا: طواه ولواه، وقيل: شده. وتعصب، أي شد العصابة. والعصابة: العمامة. والعصبية: أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أم مظلومين. وفي الحديث: العصبي من يعين قومه على الظلم (3).
وجاء في (المعجم الفلسفي): التعصب، غلو في التعلق بشخص، أو فكرة، أو مبدأ، أو عقيدة؛ بحيث لا يدع مكانا للتسامح. وهو ضرب من الحماسة الشديدة التي قد تؤدي إلى العنف والاستماتة. وهو بهذا حال غير سوية على مستوى الفرد والجماعة، ويصاحبها ضيق أفق وبعد عن التعقل (4). والتعصب نقيض الحرية والتسامح. إذا ازداد التعصب قلّت الحرية، والعكس بالعكس (5).
وهناك مصطلح يتقاطع مع التعصب وهو الغلو. والغلو: تجاوز الحد. يقال ذلك إذا كان في السعر غلاء، وإذا كان في القدر والمنزلة غلو. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]. والغلواء: تجاوز الحد في الجماح؛ وبه شبه غلواء الشباب (6).
من هذه التعريفات يمكن أن نخلص إلى أن: التسامح حالة نفسية بالأساس تستتبع موقفًا فكريًا؛ فمجرد العلم لا يؤدي إلى التسامح إلا إذا تحلى صاحبه بأخلاق فاضلة. والتسامح والحرية مترابطان، وإن شئت فقل: مترادفان. أما التعصب ففيه معنى الطي واللي والشد، أي الانغلاق والانطواء؛ فالمتعصب لا يحب أن يرى أو يسمع خلاف ما يعتقد، أو يسمع سماع المعرض لا سماع من يبحث عن الحقيقة. وقد يتطور التعصب من مجرد موقف فكري إلى فعل مادي، بالعنف والقتل. بينما الغلو هو تجاوز الحد لشيء ليس بالضرورة أن يكون خطأ، بل قد يكون صحيحًا في أصله، مثل المغالاة في حب الأنبياء بعبادتهم! أو المغالاة في حب الأوطان بالعنصرية! والغلو أقرب أن يتسرب إلى الشباب؛ لأنها مرحلة عمرية تتصف بالاندفاع والحماسة وعدم الروية.
إشارات:
إذا نظرنا إلى المنهج الإسلامي -كدعوة وعملية تغيير- نجد أننا أمام عدة أركان يقوم عليها هذا المنهج، وهي: (المرسِل) وهو الله سبحانه، و(الرسالة) وهي الإسلام، و(المرسَل) وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، و(المرسَل إليهم) وهم المسلمون، والناس كافة. وقد وردت إشارات في القرآن الكريم والسنة النبوية تدلنا على أي مدى أن الإسلام بهذه الأركان هو أبعد ما يكون عن إقرار التعصب، فضلا عن الدعوة إليه.
فالله سبحانه أخبرنا عن ذاته العلية بأنه لم يخلق الناس ليعنتهم ولا ليوقع بهم الحرج والمشقة؛ فقال سبحانه: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:147]. {يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بكم العسر} [البقرة:185]. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]. والرسالة قال الله تعالى عنها: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. كما قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ب « » (رواه أحمد من حديث أبي أمامة). والرسول صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. والمسلمون حدد لهم النبي صلى الله عليه وسلم المنهج الذي ينبغي عليهم اتباعه، فقال: « » (رواه البخاري من حديث أبي هريرة).
والسؤال: إذا كانت هذه الإشارات -وغيرها كثير- قد تواترت بحق المنهج الإسلامي، فكيف تسرب التعصب إلى واقعنا، وغاب التسامح بما يستلزمه من حرية في الفكر وتعددية في المواقف والرؤى؛ حتى تطور ذلك أو تدهور إلى عنف مادي، أساء إلى الإسلام بما لم يسئ به أعداؤه؟!
أسباب مشتركة:
التعصب؛ سواء كان فكريًا، أو سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو متعلقًا بموقف أو بشخص، له أسباب عامة مشتركة تقف وراء هذه الظاهرة؛ أهمها:
اضطراب الأسرة: فإذا نشأ الطفل في بيئة أسرية مضطربة ممتلئة بالمشكلات، يتسلط فيها أحد الأبوين على الآخر؛ فإنه لا شك سينشأ منطويًا أو عدوانيًا تجاه الآخرين، وهو في الحالتين لن يعتد إلا برأيه، ولن يثق بغيره (7).
قلة العلم: فكلما ازداد الإنسان علمًا أدرك أنه يجهل أكثر مما يعلم، وأنه لا يلم إلا بطرف من الحقيقة وغابت عنه أشياء، وأن ما يظنه صوابًا محضًا قد يكون هو الخطأ المحض! أو على الأقل قد يكون أحد أوجه الصواب. حينئذ لا يسعه إلا أن يتبع منهج الإمام الشافعي القائل: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وإن الدارس لتاريخ الحركات التي انجرفت إلى هوة التعصب، واتخذت العنف طريقًا، ليجد أنها قامت على أناس قليلي العلم، وأخذوا عن الكتب أكثر من العلماء؛ فأورثتهم قلة العلم، والطريقة الخاطئة في التلقي، فهما سقيما حسبوه الحقيقة المطلقة. لكن المنهج الصحيح يقتضي أن ندور مع الدليل أينما دار، ونبحث عن الحق ولو لم يوافق هوانا، ونأخذ به ولو جاء ممن خالفنا في المذهب.. وندرك أن محكمات الشرع وقطعياته التي لا يجوز الخلاف بشأنها قليلة جدًا، وأن ما دون ذلك كثير، والباب فيه مفتوح لتعدد الآراء والاجتهاد المنضبط؛ وهنا تكون القاعدة أنه (لا إنكار في المختلف فيه).
غياب الحريات: إن كلمة ابن خلدون الجامعة: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، تلخص الآثار الكارثية التي تنتج عن بيئة القهر والتسلط، وعن غياب الحريات، وانعدام الأفق السياسي الذي يسمح بالتعددية والحوار، وانطلاق المواهب والأفكار من عقال الخوف والريبة. وحين يجهر الفرعون بـ{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} [غافر:29]، فإنه لن يقابل إلا بردة فعل في الاتجاه المضاد؛ لا تعترف بالحوار، ولا تؤمن بجدوى الأفكار، ولا ترى إلا ذاتها.. وهل ثمة بيئة لتفريخ التعصب والغلو أفضل من هذه؟!
الانغلاق على الذات: إن من سنن الله الثابتة، أنه لم يخلق الناس على نمط واحد، بل قرر فيهم سنة الاختلاف في الألسنة والألوان والأعراق، بل حتى في الشرائع والمذاهب، قال سبحانه: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]. وقال سبحانه أيضًا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119]. لكن المنغلق على ذاته لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا صوته، ولا يعترف بحق الآخرين في الاختلاف والاجتهاد، بل ربما لم ير لهم حقًا في الحياة أصلا! وهذه الرؤية الأحادية مخالفة لسنة الله في الكون، ومن شأنها أن تجعل صاحبها يستهين بحقوق الآخرين، ويستخف بحرماتهم.
شيء من التسامح:
في مقابل ظاهرة التعصب والغلو، التي لها آثارها المفسدة للدين والدنيا، تبدو أهمية قيمة التسامح كإحدى القيم الضرورية التي لا غنى عنها لمن ينشد مجتمعا متماسكا، ويبتغي تدينًا صحيحًا يتساوق مع الفطر السليمة والعقول المستقيمة. والتسامح كقيمة فكرية وموقف عملي يقتضي أن نؤكد عدة أمور:
- إن كل إنسان -فيما دون العقائد؛ إذ الدين عند الله الإسلام- يملك طرفًا من الحقيقة، مثلما أن العلم لا يعرف الكلمة النهائية؛ فهناك دائمًا ما يدعو إلى التغير والتطور، وتجربة الإمام الشافعي في مذهبه الجديد بعد القديم، خير شاهد؛ وما قرره الفقهاء من أن الفتوى -لا الحكم- تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، يساند هذا ويعضده.
- التسامح يعني بالضرورة وجود من يخالفنا؛ وإلا فلا معنى للإشارة إلى التسامح والتأكيد عليه لو أن ثمة إجماعا على رأي واحد!
- التسامح مع المخالف لا يعني الرضا بما يقول به، ولا التنازل عن قناعاتنا الذاتية؛ بل يعني فقط السماح بوجوده والإقرار بحقوقه.
- إذا كانت إرادة الله سبحانه قاضية باختلاف الناس وتنوعهم، فلا راد لذلك؛ ومهمتنا أن ننقل هذا الاختلاف من دائرة الصراع والمواجهة إلى دائرة التدافع والتكامل.
- علينا أن نحذر من دعوات التسامح التي توجه بطريقة ملتوية بغرض أن ينصرف أهل الحق عن التمسك بحقهم ويرضوا بما وقع من ظلم؛ فهذه الدعوات تفقد قيمتها الأخلاقية إذا أريد لها أن تكون ستارا لتسويغ الظلم وتبرير الاستسلام.
- ينبغي أن تقدم النظم السياسية نموذجًا للتسامح من نفسها أولًا؛ فالناس على دين ملوكهم، والشعوب تربى وتعلم؛ وإذا كان المجتمع بفئاته مطالبا بإشاعة التسامح وجعله قيمة راسخة في الحياة بمختلف اتجاهاتها، فإن من بيدهم الأمر والنهي يصبحون أكثر مسؤولية في تحقيق تلك القيمة المهمة، التي هي -بلا شك- لازمة لعمارة الدنيا واستقامة الدين.
الهوامش:
(1) مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، ص: 465، مكتبة الشروق الدولية، ط4، 2008م.
(2) مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الفلسفي، ص: 44، المطابع الأميرية، من دون رقم الطبعة، 1983م.
(3) ابن منظور لسان العرب، مادة (عصب)، ص: 4/2963، تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، من دون رقم الطبعة وتاريخ النشر.
(4) مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، ص: 49.
(5) جميل صليبا، المعجم الفلسفي 1/306، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م، من دون رقم الطبعة.
(6) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن 472/473، مكتبة نزار مصطفى الباز، من دون تاريخ.
(7) ذكر د. طارق حجي في كتابه (تجربتي مع الماركسية)- الفصل الأول: الماركسية والماركسيون والأخلاق- أن الجماعات اليسارية المتطرفة كان يلاحظ انحدار شبابها من أسر مضطربة، وأنهم يعانون انحرافات نفسية وأخلاقية جعلتهم حانقين على المجتمع. كما ذكر أن هذا كان رأي الأستاذ عباس محمود العقاد أيضًا.
السنوسي محمد السنوسي