فتنة التكرار!

أحمد كمال قاسم

لقد أدركت كل كائنات الكون أن هذه الأمانة شديدة عسيرة.. فحرية عدم الطاعة تلفِت نظر العبد هنا وهناك وتجعله ينصرِف عن عبادته بأشياءٍ أخرى لا تقع في إطار العبادة، بل تجعله مُعرَّضٌ لأن يترك العبادة بالكلية. كل هذه الرزايا مُتوَقعة من لدن هذا الظلوم الجهول ومن أسوئها هو إِلف العبادة لتكرارها وتحوُّلها إلى عادةٍ صماء.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

إن الله تعالى عرض أمانة حرية اختيار عبادة الله من دونها على السماوات والأرض والجبال والإنسان فلم يتضلَّع بها إلا هذا الإنسان..

لقد أدركت كل كائنات الكون أن هذه الأمانة شديدة عسيرة.. فحرية عدم الطاعة تلفِت نظر العبد هنا وهناك وتجعله ينصرِف عن عبادته بأشياءٍ أخرى لا تقع في إطار العبادة، بل تجعله مُعرَّضٌ لأن يترك العبادة بالكلية. كل هذه الرزايا مُتوَقعة من لدن هذا الظلوم الجهول ومن أسوئِها هو إِلف العبادة لتكرارها وتحوُّلها إلى عادةٍ صماء.

إن السمواتِ والأرضِ والجبال دائبون في عبادتهم وتسبيحهم، فحياتهم هي عبادتهم وعبادتهم هي حياتهم.. ولا يوجد صارفٍ لهم عن هذا لأنه ليس لهم اختيار في ذلك بعد أن اختاروا طائعين في بداية الخلق أن يكونوا عديمي الاختيار فيما بعد في عبادتهم، يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].

أما الإنسان فيوجد له صوارفٌ عديدة يُخرِجها هو بظلمهِ وجهلهِ عن العبادة بتغيير نِيَّتِه فيها ليكون اتجاهها الحياة الدنيا الزائلة. فلما أخرج أجزاءً من حياته عن ماهية العبادة السرمدية لله تعالى؛ جعل الأصل هي الصوارف والاستثناء هو العبادة.. فقسَّم حياته لدين ودنيا وما أجهله وما أظلمه! من تقسيم فقد فطِنت السموات والأرض والجبال لخطورة الوقوع في هذا التقسيم فابتعدت عنه ورفضت المغامرة.

إن تقسيم الإنسان حياتَه لدينٍ ودنيا جعله يفعل ما يُسمِّيه "دينًا" في حياته كعباداتٍ منفصلةٍ تؤدَّى في أوقاتٍ معينة، وأخرج نفسه من العبادة المستمرة لله عز وجل.. حيث يفعل ذلك كل من في السماوات والأرض عدا الإنسان، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:17].

ومن هذا نشأ التكرار! فلم ينشأ إلا من التقطع! ونشأت فتنة التكرار التي أوقع الإنسان فيها نفسه بترك التفكُّر المستمر في ملكوت الله.. وأخذ نوايا العبادة في كل عملٍ يعمله في حياته حتى لو كان المُصمِّم في تصميمه والعامل في مصنعه!

نشأت فتنة التكرار فتبعتها فتنة إِلف العبادة.. والتعوُّد عليها.. وعدم التفكُّر فيها.. ولا تسبيح الله بها تسبيحًا مستمرًا بما تقتضيه كل عبادة.

فشذ الإنسان عن الكون كله فأصبح الكون كله في تسبيحٍ رائعٍ متناغم، ولكن يخترق هذا التناغم نشاز تسبيح الإنسان المتقطع أو عدم تسبيحه، قال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1].

اللهم ألهِمنا تسبيحك المستمر حتى ننغمِس في التفكُّرِ في عظمتك.. من خلال التفكُّر في كونك الذي نتناوله بالعمل الدائب تحت مظلة عبادتك.

والله أعلم.
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 
 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام