العودة إلى التربية القرآنية.. المحكم والمتشابه
محمد العبدة
يقول ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذا الموضوع: "فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس لصلح العالم صلاحًا لا فساد فيه فالله سبحانه أخبر وهو الصادق الوفي أنه يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلمًا ولا هضمًا، ولا يخاف بخسًا ولا رهقًا، وإذا أوقع عقابًا أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
ليس هذا المقال لبحث موضوع المحكم والمتشابه من جميع جوانبه، ولكن للتركيز على شأن محدد فيه وهو إرجاع المتشابه إلى المحكم في موضوع المشيئة الإلهية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم، وإذا رجعنا إلى الآيات التي تتحدث في هذا الشأن نجد إشارة إلى أن القرآن الكريم كله محكم {كِتَـٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود من الآية:1]، أي هو في غاية الإحكام وقوة الاتساق، فأخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل، ولا يتطرق الضعف إلى ألفاظه، ومن جهة أخرى وصف القرآن كله بالمتشابه {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰبًۭا مُّتَشَـٰبِهًۭا} [الزمر من الآية:23]، فهو متشابه في الحسن والهدى والنفع والبلاغة والإعجاز، ومن جهة ثالثة وصف بأنه يتضمن المحكم والمتشابه {مِنْهُ ءَايَـٰتٌۭ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌۭ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌۭ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران من الآية:7]، وأم الكتاب أي معظم الكتاب، فالمحكم هنا هو ما يدل على معناه بوضوح لا خفاء فيه، ولا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، والمتشابه هو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره، وهو مما يتعلق به أهل الزيغ ابتغاء الفتنه، والراسخون في العلم يردون المتشابه المحتمل إلى المحكم الصريح، ويزيلون ما فيه من شبهة أو غموض، ولا يسمى أحد راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع بحسب ما قدر له، وإذا خفي عليه شيء يقول: "كل من عند ربنا" فيصير كله محكم.
فإذا قرأ المسلم هذه الآيات {وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭا} [الفتح:14]، أو قرأ: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنًۭا ۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۖ} [فاطر من الآية:8]، أو قرأ: {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةًۭ وَ ٰحِدَةًۭ وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِۦ ۚ وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّۢ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى:8].
وظن أنها خلاف الحكمة، أو أن هدايته وإضلاله جزافًا بغير سبب ـمعاذ الله ـ ، فلا بد أن يرجع إلى الآيات التي توضح هذا الإشكال وهي أن هدايته لها أسباب يفعلها العبد {يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَ ٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ} [المائدة من الآية:16]، وأن إضلاله لعبده له أسباب وهو تولي هذا العبد للشيطان {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ ۗ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} [الأعراف من الآية:30].
وقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف من الآية:57]، أي لئلا يفقهوه، وذلك عقابًا لهم بسبب إعراضهم واستكبارهم كما في قوله تعالى {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًۭا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان من الآية:7]، وقوله تعالى {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًۭا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا۟ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال:22-23].
وقوله تعالى {إِن تَكْفُرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا۟ يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ} [الزمر:7]، فاتباع الناس لآبائهم، وإعراضهم واستهزائهم هو السبب في هلاكهم، {ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِمَا كَفَرُوا۟ ۖ وَهَلْ نُجَـٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ} [سبأ:17]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌۭ مُّرْتَابٌ} [غافر من الآية:34]، {مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًۭا} [النساء:147].
قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى {ٱشْتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَة}، لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه، (تفسير ابن عطية [2/75])، ولازموا الضلالة وتكسّبوها مع أن الهدى ممكن لهم ميسر، كان ذلك كبيع وشراء.
وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يضل إلا الفاسقين، ومن آثر الضلال على الهدى، قال الشيخ اليماني: "وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين، والمراد بهم من استحكم كفرهم، وليس كل كافر، فقد هدى الله من لا يحصى من الكفار (عبد الرحمن المعلمي اليماني: ايثار الحق على الخلق [16]).
ومن الآيات المحكمات التي يرجع إليها قوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍۢ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا . إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًۭا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2-3]، هديناه السبيل، وضحنا له الطريق، وهو الذي اختار، وكذلك قوله تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّىٰهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} [الشمس:7-10].
ولكن الإنسان رغم ما أعطي من القدرة على الاختيار إلا أنه يبقى تحت تصرف مشيئة الله، وحتى لا يظن أنه خارج عن مشيئة الله المطلقة، وهي مشيئة حكيمة مدبرة ، خلقت أسبابًا ومسببات وسننًا كونية، والإنسان يحيا ضمن هذه السنن فالأيات التي تذكر{يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ}، إنما تأتي للدلالة على انفراده سبحانه وتعالى بخلق الأشياء وتدبير جميع الأمور، ليتعلق رجاء العبد به وحده، يقول ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذا الموضوع: "فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس لصلح العالم صلاحًا لا فساد فيه فالله سبحانه أخبر، وهو الصادق الوفي أنه يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلمًا ولا هضمًا، ولا يخاف بخسًا ولا رهقًا، وإذا أوقع عقابًا أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه كما قال تعالى عن أهل النار {فَٱعْتَرَفُوا۟ بِذَنۢبِهِمْ فَسُحْقًۭا لِّأَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ} [الملك:11]، فالجهّال بالله وأسمائه وصفاته يبغضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون، وذلك حين يقررون أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره، ويتلون قوله تعالى {لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الآنبياء من الآية:23]، وقوله {أَفَأَمِنُوا۟ مَكْرَ ٱللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} [الأعراف:99]، وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته ويُنعّم أهل معصيته" (الفوائد [208]).
والذين يقصدهم ابن القيم، أرادوا إثبات المشيئة المطلقة لله، وكل هذا من قبيل العناد وردة الفعل تجاه المعتزلة، الذين تطرفوا وبالغوا في حرية الإنسان وإرادته بعيدة عن إرادة الله ومشيئته، يقول الشيخ محمد عبدالله دراز: "وإذن فبدلًا من أن يؤكد الأشاعرة القدرة الإلهية الكاملة التي غاب عن المعتزلة تأكيدها، وبدلًا من أن يجعلوها في مقابل الحكمة التي حاول المعتزلة إبرازها، نجدهم وبدافع الحمية وقلة الحكمة النظرية، قد ألغوا تقريبًا الحكمة من أجل القدرة" (دستور الأخلاق في القرآن [99]).
ويتعجب الإنسان من هذا الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة مع أن الأمر واضح، ولكنه الجدل والعصبيات والمماحكات النظرية، ويوضح هذا الأمر الشيخ ابن سعدي: "وهذه الآيات التي تضاف فيها الأعمال إلى العباد حسنها وسيئها اذا اشتبهت على القدرية، فظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقدره، وأن الله ما شاءها منهم ولا قدرها، تليت عليهم الآيات الكثيرة الصريحة على تناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان والأعمال.. (القواعد الحسان [69]).
فالطاعات والمعاصي واقعة منهم بقدرتهم وإرادتهم، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، "إن الذين وصفهم الشيخ دراز بقلة الحكمة النظرية ردوا النصوص الصريحة الدالة على ثبوت الأسباب شرعًا مقدرًا كقوله تعالى {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ}، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال من الآية:51]، ردوا ذلك بالمتشابه {هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ} [فاطر من الآية:3]، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال من الآية:17]، إن الله سبحانه وتعالى أودع سننًا في الكون، مثل شروق الشمس وغيابها، ووجود السحاب ونزول المطر، وحدوث الزلازل، والعلماء اليوم يتوقعون نزول المطر في يوم كذا، ولكن من الذي وضع هذه السنن في الكون، إنها إرادة الله الكونية وقد أودع الله في فطرة الإنسان قوة تعينه على تمييز الحق من الباطل، وتهيب به إلى المبادرة إلى الحق، ومجانبة الباطل، هذه القوة هي التي قال الله عنها {فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ} [الروم من الآية:30]، وتقارعها قوة أخرى تسوقه إلى الباطل، وتزين في نظره الكذب، فإذا أناب الإنسان إلى الله، تجلى له الطريق الذي يتوصل به إلى الله، وإذا استكبر ولم يشعر بحاجة للإنابة، فلن تأخذ الكلمة إلى قلبه سبيلا قال تعالى {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ حِجَابًۭا مَّسْتُورًۭا . وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًۭا} [الإسراء من الآية:45-46].
إنّ الله سبحانه وتعالى أمر بتدبر القرآن مطلقًا، وأخبر أنّ القرآن هدى وشفاء، فلا بد أن تكون جميع نصوص القرآن مفهومة، وقد فسر السلف جميع القرآن (مجاهد عن ابن عباس)، وأخبر تعالى أن المحكمات هن أم الكتاب وعمدة ما فيه، والمتشابه هو امتحان للعباد كي يرده العلماء إلى المحكم، فتسميتهم راسخين يقتضي بأن يعلمون غير المحكم.