الفساد! كان سارقًا وأصبح قاتلًا
هل تتذكر حين غرقت جدة أول مرة؟! وحين غرقت مرة أخرى؟! هل تتذكر حين غرقت الرياض؟! حين غرقت تبوك؟! وهذه المرة تغرق مكة! هؤلاء خمسة شهود عدول من السماء، يشهدون أن الفساد بلغ حدًّا مخيفًا ومقلقًا، وأن التدخل الحازم والحاسم في محاربته أصبح أمنًا وطنيًا..
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
أستغربُ ممن يحمل حبَّ الوطن في قلبه، ويحلُم بمستقبله، ثم لا يتألم، ولا يشكو ويصرخ من حال الفساد والمفسدين! إن السنن الكونية والقوانين الربانية لا تستثني أحدًا، ولا يمكن أن ينتشر الفساد المالي بين الموظفين ثم ننتظر مستقبلًا أفضل لبلادنا. المستقبل الأفضل نصنعه بأيدينا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت من الآية:46]. المستقبل الأفضل تصنعه الإرادة الصادقة، والهمة العالية، والنزاهة والأمانة.
هل تتذكر حين غرقت جدة أول مرة؟! وحين غرقت مرة أخرى؟! هل تتذكر حين غرقت الرياض؟! حين غرقت تبوك؟! وهذه المرة تغرق مكة! هؤلاء خمسة شهود عدول من السماء، يشهدون أن الفساد بلغ حدًّا مخيفًا ومقلقًا، وأن التدخل الحازم والحاسم في محاربته أصبح أمنًا وطنيًا. لقد تجاوز الفساد مرحلة السرقة، وأصبح مدمرًا وقاتلًا. أيُّ جريمة أعظم من بيع المواطنين أراضٍ سكنية في طريق السيل، ليجد المواطن نفسه قد أنفق حصيلة عمره ليضع أهلَه وأبناءه وماله في طريق الموت!
وهذا المخطط عليه كل التوقيعات والتراخيص الرسمية! إنه الفساد وحب المال الذي بلغ بهم حدًّا لا يفكرون معه في حياة هؤلاء المواطنين، ولا يقلقون من محاسبةٍ جادة، ومحاكمةٍ عادلة. يقول بعضهم: "في كل العالَم فسادٌ ورشاوى، وفي كل العالم كوارث طبيعية من زلازل وبراكين، وسيول وعواصف"، ونسي هذا أن كل العالم يحاسب الفاسدين أيضًا، ويعزلهم من وظائفهم، ويحاكمهم ويعاقبهم. ونحن هنا ننتظر أن نكون مثل بقية العالم المتقدم، الذي يفكر فيه الفاسد ألف مرة قبل أن يقترف فساده، ويندم ألف مرة بعد أن تزل قدمه، جرَّاء المحاسبة الجادة، والمحاكمة العادلة. يحتاج الوطن أن يقف أمام الفساد والفاسدين وقفة حازمة لا تقل عن وقفته أمام الإرهاب، بحملاته الإعلامية، وحملاته الأمنية، ومتابعتهم الدقيقة، وسنرى في وقت قصير جدًا، كيف تذهب الأموال إلى مشاريعها، وكيف تعود للأرقام معانيها، وكيف يشعر المواطن بنعمة الأمن والأمل.
ومن غير هذه الوقفة الحازمة سيبقى الفساد يتمدد بأمان بين الموظفين، وسنكتشف أن القسم الأصغر من الموازنة يُنفَق في المشروع، والقسم الأكبر يذهب ضحية الفساد والفاسدين. ستتحول مشاريعنا إلى هامش صغير بجوار الفساد، وسيصبح المشروع مثل المحلِّل، الذي يبررون به أخذ الموازنات فحسب. دون وقفةٍ حازمة لن يترك الفساد خيرًا في هذه البلاد إلا استغله وابتزّه وشوهه، مع الفساد ستجد الجميع يشتكي رغم الموازنات الضخمة، لن يسلم مستشفى، ولا مدرسة، حتى الطرقات ستصبح سوأة لكل المارّة. والخوف اليوم أن يتحول هذا الغرق إلى فرصة جديدة للفساد، واستخراج موازنات ضخمة بسبب هذا الغرق، لا تذهب إلى مكانها الصحيح، وبعد أن كان غرق المدينة إنذارًا للإصلاح والتصحيح، والمحاسبة والمحاكمة، يمكن أن يتحول إلى فرصة جديدة لهؤلاء الفاسدين إن هم أَمِنوا العقوبة الرادعة.
وما زالت الحسرة هي الحسرة في نفوس الشرفاء، والتي عبر عنها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بعد سيول جدة عام 1430: "وإنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعًا لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإرادة والسيطرة، في حين أن هذه الفاجعة نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية. وإن من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها، ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات، ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم".
عبد الله القرشي