العز بن عبد السلام
محمد عبد الملك الزغبي
أيها الأحبة في الله؛ وحتى تستيقظ الأمة من سباتها، وتقوم من رقدتها، وتكشف حجاب العمى عن بصيرتها لا بد لها من دعاة هداة طيبين مخلصين ينيرون لها طريقها ويأخذون بأيدي أبنائها إلى النجاة والعافية في الدنيا والآخرة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}... ولأجل علو الهمة في قلوب علماء وأبناء الأمة أثرت أن أسجل هذا النموذج الصالح، متمثلاً في عالم رباني استطاع أن ينهض بأبناء أمته إلى الشرف والعزة والتمكين...
- التصنيفات: أخبار السلف الصالح - الدعاة ووسائل الدعوة - الحث على الطاعات -
لا ينكر عاقل على ظهر البسيطة أن ما يجرى وما يحدث للمسلمين في هذا الزمان إنما هو بسبب غياب العلماء الربانيين وكذا الحكام، وكذا بسبب البعد عن الرحمن، وارتكاب المعاصي الجسام، والمجاهرة بالفسق والإعلان، وكذا الحرب من الله بسبب الربا والبهتان، فصارت الأمة ذليلة عاجزة يطمع فيها القاصي والداني ويتناحر على خيراتها الملحد والكافر، يسلبها بيضتها المجرم والفاجر، وأبناء الأمة في كل هذا كالأيتام على موائد اللئام.
أيها الأحبة في الله؛ وحتى تستيقظ الأمة من سباتها، وتقوم من رقدتها، وتكشف حجاب العمى عن بصيرتها لا بد لها من دعاة هداة طيبين مخلصين ينيرون لها طريقها ويأخذون بأيدي أبنائها إلى النجاة والعافية في الدنيا والآخرة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، إذا نجحوا في ذلك واستطاعوا إنقاذ الأمة من السقوط في الهلاك فإنهم جميعاً حينئذ يرتقون إلى مرتبة الخيرية التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران من الآية:110]،
ولأجل علو الهمة في قلوب علماء وأبناء الأمة أثرت أن أسجل هذا النموذج الصالح، متمثلاً في عالم رباني استطاع أن ينهض بأبناء أمته إلى الشرف والعزة والتمكين ألا وهو: سلطان العلماء (العز بن عبد السلام) [1].
والإمام العز بن عبد السلام من أصل مغربي، ولد في دمشق سنة 578هـ، وكان فقيراً في أول أمره، ولم يُحصِّلْ العلم إلاَّ وهو كبير.
قال السبكي: قال أبى: "إن الشيخ عز الدين كان في أول أمْره فقيراً، ولم يشتغل بالعلم إلا على كِبر، وإن العز كان يبيت في (الكلاسة) مأوى الفقراء من جامع دمشق، وكان الرجل رحمه الله محارباً للبدع مُبْطلاً لها، وأعظم دليل على ذلك أنه لما وُلِّىَ خطابة الجامع الأموي أبْطل كثيراً من البدع، منها على سبيل المثال لا الحصر: (بدعة ضرب السَّيْف على المنبر، وبدعة صلاة الرغائب)".
قال عنه ابن دقيق العيد: "ابْنُ عبد السلام أحد سلاطين العلماء".
بل إن العلماء شهدوا له بالفضل وأقروا له بالإمامة، إذ أنه لما استقر مقامه بمصر امتنع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري من الفتيا وقال: "كُنَّا نفتى قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه" [2].
وكان الإمام العز بن عبد السلام عالماً عاملاً، يفعل ما يقول، ذكر قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة (733هـ): "إن الشيخ العز لما كان بدمشق، وقع غلاء كبير، حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعْطَتْهُ زوجته مَصَاغاً لها وقالت: اشْتَرِ بنا به بستاناً نصيف فيه، فأخذ العِزُّ المصاغ وباعه، وتصدق بثمنه، فقالت زوجته: يا سيدي اشتريت لنا؟ قال: نعم، بستاناً في الجنة، إني وجدت النَّاس في شِدةٍ فتصدقت بثمنه، فقالت: جزاك الله خيراً"، وكان الإمام العز بن عيد السلام أيضاً لا يخش في الحق لومة لائم، حيث كان يأمر بالمعروف، بل إنه شدد في ذلك، حتى قال عنه الحافظ شمس الدين الداوودي [3]: "بالغ في القيام بالأمر بالمعروف، وشدد في ذلك".
وها هي بعض المواقف التي تدل على ذلك:
الموقف الأول: كان لمماليك الأتراك نفوذ في الدولة الإسلامية في أواخر حكم العباسيين وامتد نفوذهم حتى أصبحوا أمراء في الدولة أيام حكم نجم الدين أيوب في مصر، وكان الشيخ العز قاضياً للقضاة فيها.
يقول السبكى: "لقد رأى الشيخ أن المماليك يخضعون لحكم الرِّقة، فبلغهم ذلك، فعظم الخطب فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطَّلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، واجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال الإمام : نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مَالِ المسلمين، ويجعل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غِلْظَةٌ حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ، وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخرى، ومشى خلفهم من القاهرة قاصداً الشام، فلم يَصِلْ إلى نحو نِصْفِ بريد حتى لحقه غالب المسلمين، لم تكن امرأة، ولا صبي، ولا رجل لا يأبه أن يتخلف، ولا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم،
فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكك قبله، فرجع، واتفقوا معه على أن ينادي على الأمر، فأرسل نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يفْدِ فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأَضْرِبَّنهُ بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعة، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج وَلَدُ الشيخ، فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تَغَير، وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يُقتَل في سبيل الله، ثم خرج وكأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب يبست يَدُ النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خبِّرْنا أين تعمل؟، قال العز: أنادي عليكم وأبيعكم، قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: مَنْ يَقْبضْهُ؟ قال العز: أنا. فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحدًا، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير".
الموقف الثاني: وهو موقف عظيم، يدل على صِدْقِ الرجل وعلى شجاعته، وكذا على خوفه من الله وحده، وعدم الخوف من المخلوقين، كذا يدل على غيرته، وتعظيمه لشعائر الله، وبغضه للمعاصي، لذا فإننا نرى نُصْرَة الله له بسبب صدقه، وها هو الموقف [4]: "وقعت له حادثة مع كبير أمناء السلطان (نجم الدين أيوب)، فقد عمد صاحب منصب الاستدارة كبير الأمناء (فخر الدين عثمان) إلى أحد مساجد مصر، وأقام على ظهره (طبلخانة) [5] ظلَّتْ تضرب نهاراً، فتعارَض ذلك مع ما ينبغي أن يتوافر لأماكن العبادة من الجو الهادئ الذي يناسب الجلالة،
فلما ثبت ذلك للشيخ، حكم بهدم هذا البناء، وأسقط شهادة فخر الدين، فلم يستطيع أحد تنفيذ الحكم، فذهب العز وأولاده، وهدموا الطبلخانة، ثم قام بتقديم استقالته للحاكم، فقبلها الحاكم، وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا أثر له [6]، واتفق أن جَهَّزَ السلطان رسولاً من عنده إلى الخليفة المعتصم ببغداد، فلما وصل الرسول إلى الديوان، وقف بين يدي الخليفة وأدَّى الرسالة له، فخرج إليه وسأله: هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟ فقال: لا، ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين ابن شيخ الشيوخ، فقال الخليفة : إنَّ المذكور أسقطه [7] العز بن عبد السلام، فنحن لا نقبل روايته".
الموقف الثالث: وهذا الموقف خصوصاً عظيم، إذْ يبين الولاء والبراء في عقيدة الرجل، كما يُعد درساً في غاية الأهمية لحكام المسلمين جميعاً في ذم موالاة الأعداء، وها هو الموقف: احتدم الخلاف بين الأخوين سلطان الشام (الملك الصالح إسماعيل)، وسلطان مصر (الصالح نجم الدين أيوب) واستعان الأول [8] بالصليبيين أعداء الإسلام، وتحالف معهم على قتال أخيه، وأعطاهم في المقابل مدينة (صيدا) و قلعة (صفد) وسمح للصليبيين أيضاً أن يدخلوا دمشق، ويشتروا منها السلاح والآلات الحربية، وما يريدون، فهبَّ الشيخ العز كالأسد، وخطب خُطبة ما زال صداها في أفئدة المؤمنين إلى اليوم، وكانت تحت عنوان: (ذم موالاة الأعداء، وتقبيح الخيانة)، وأفتى فيها بتحريم بيع السلاح لهم،
وقطع من الخطبة الدعاء للسلطان إسماعيل، وهو بمثابة الإعلان بترك البيعة، وقال فيها: "اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد، يُعزُّ فيه أوليائك، ويُذلُّ فيه أعداؤك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك" فأمر السلطان وكان خارج دمشق باعتقال الشيخ وعزله، وقد أشار أنصار الشيخ عليه بأن يغادر البلاد وينجو من السلطان، وأعدوا له الخطة، فرفض ذلك، فعرضوا عليه أن يختبئ فقال: "والله لا أهرب ولا أختبئ وإنما نحن في بداية الجهاد، ولم نعمل شيئاً بعد، وقد وطَّنْتُ نفسي على احتمال (تحمل) ما ألقى في هذا السبيل، والله لا يضيع عمل الصابرين"، ولما قدم السلطان إسماعيل إلى دمشق أفرج عنه، ولكن العز بن عبد السلام أُمِرَ بملازمة داره، وأن لا يفتى، ولا يجتمع بأحد الْبَتَةَ، فاستأذنه في صلاة الجمعة مؤتماً بإمامها، وأن يعيد إليه طبيب مزين إذا احتاج إليه، أن يدخل الحمام، فأذن له في ذلك.
ومرت الأيام والشيخ في إقامته الجبرية، وقد مُنِع من الإفتاء والاتصال بأحد من إخوانه أو طلابه، فطلب الهجرة من دمشق قاصداً مصر، وأفرج عنه بعد مشاورات فأقام بدمشق، ثم نزع منها إلى بيت المقدس، فوفاه الملك الناصر داود في الفور، فقطع عليه الطريق، وأخذه، وأقام بنابلس مدة وجدت له معه خطوب، ثم انتقل إلى بيت المقدس، حيث أقام مدة، ثم جاء الصالح إسماعيل، والملك المنصور صاحب حمص، وملوك الفرنجة بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية، فَسَيَّرَ الصالح إسماعيل بعض إخوانه إلى الشيخ بمنديل وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ، وتتلطف له غاية التلطف، وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك تدخل به علىَّ، وإن خالفك فاعتقله في خيمةٍ إلى جانب خيمتي،
فلما رجع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له: "بينك وبين أن تعود إلى منصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير"، فقال الشيخ : "والله يا مسكين ما أرضاه أن يُقَبِّلَ يدي فضلاً عن أن أُقَبِّل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد، الحمد لله الذي عافاني مِما ابتلاكم به" فقال الرسول: "يا شيخ قدر لي أن توافق على ما يطلب وإلاَّ اعتقلتك"، فقال الشيخ: "أفعلوا ما بدا لكم"، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان، وكان الشيخ يقرأ القرآن في معتقله، والسلطان يسمعه، فقال يوماً -السلطان- لملوك الفرنجة: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ فقالوا: نعم. قال: هذا أكبر قساوس المسلمين [9]، قد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"، فقال له ملوك الفرنجة: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مَرَقَتِها" [10].
الموقف الرابع: وهو موقف أيضاً عظيم يظهر شجاعة العز وجرأته، وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف، وثقته في الله جل وعلا وها هو الموقف: ذكر الشيخ الباجى رحمه الله: "إن سلطان مصر، خرج على قومه في أكمل زينة وأعظمها في يوم العيد إلى القلعة، وقد اصطف العسكر، وقبل العلماء الأرض بين يدي السلطان، فإذا الشيخ العز ينادي السلطان مجرداً عن لقبه بصوت عال: يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك، ألم أبوء لك مالك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال العز: نعم الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، فقال السلطان: أما ما عملته هذا من زمان أبي، فقال العز: أأنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف من الأية:22]، فأبطل السلطان تلك الحانة على الفور".
ولما مرتْ جنازة العز بن عبد السلام من تحت القلعة، ورأى الملك الظاهر كثرة الخلائق قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الرجل لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزعوا الملك منى.
---------------------------------
[1] انظر كتابنا: تزكية النفوس، صـ107-112، ط الإيمان، وللاستفاضة في أخباره راجع كتب التراجم، وكذا طبقات المفسرين [ 1 / 315-318 ] برقم ( 288 ) للحافظ شمس الدين الداوودى.
[2] المرجع السابق.
[3] انظر طبقات المفسرين ( 1 / 315-316 ) للحافظ شمس الدين الداوودى، وانظر الموقف بتفصيله في كتابنا: "تزكية النفوس" ( 107-109 ) ط الإيمان.
[4] ذكر أصحاب التراجم أن هذه الحادثة وقعت بين العز بن عبد السلام، وكبير أمناء السلطان نجم الدين أيوب في سنة 640هـ.
[5] أي أقام على سطح المسجد قاعة موسيقى.
[6] المقصود بالحكم ها هنا هو "إسقاط شهادة صاحب الاستدارة كبير الأمناء فخر الدين عثمان".
[7] أسقطه: أي أسقط شهادته.
[8] سلطان الشام الملك الصالح إسماعيل.
[9] يقصد أكبر شيوخ وعلماء المسلمين، ولكنه عبر بتلك اللفظة لهم من باب تقريب الأفهام إلى الأذهان لأنهم أعاجم، ويعرفون أن القس هو العالم الديني بالنسبة لهم كنصارى.
[10] ابتغى العزة عند الصليبيين، فلم يزده الله إلا ذلاً، وجعل الله ردهم عليه عزاً للعز بن عبد السلام، وحق في السلطان {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج من الأية:18]، وحق في العز: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون من الأية:8].