ما أروع صبرك!

أنا أرقب رسومًا على جدرانِ السجن من أزهار ونارٍ ودُخَان، لا يهم لم اختلاط الصور؛ لأني فككتُ عُقَد المشهد، فيه غضب كثير، وصمت رهيب، لكنه من حقِّك يا أسير السجون أن تنقشَ على الجدران، وترتل القرآن، ففي الترتيل تجويد الاحتكام إلى الله بكل صبر، وما أروعه من صبر!

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

لستُ أُخلِفُ وعدي في ألا أكتب رسالة إعجاب لسجين المعتقل، سأكون سعيدة جدًّا لمن يقرؤها.

كبِرْتُ على حبِّ الأمانة، بَدْءًا بحرفٍ، ووصولاً إلى منتهى صبري، فمن هذه المسافة أستنشق عبق الطمأنينة في أن أبطال الصمود لهم وقعٌ على عيني نسورًا تُحلِّق فوق نار الغضب، أصبحت أنسِجُ أُفولَ المستقبل وأنا أتتبَّع القفا من أثر ما تركت في بيتك لأهلك ممَّن ودَّعوك لآخر مرة على أبواب سجون من حديد.

 

لم أفهم معاناتك إلا وأنا أرقب رسومًا على جدرانِ السجن من أزهار ونارٍ ودُخَان، لا يهم لم اختلاط الصور؛ لأني فككتُ عُقَد المشهد، فيه غضب كثير، وصمت رهيب، لكنه من حقِّك يا أسير السجون أن تنقشَ على الجدران، وترتل القرآن، ففي الترتيل تجويد الاحتكام إلى الله بكل صبر، وما أروعه من صبر!

 

أحب الهدوء والظلام حينما أكتبُ عن الصبر لمن لم يرَوا نورًا ولا حريَّة تكسر أغلال أيديهم المكبَّلة من زمان، هو الإجرام لطائفةٍ من البشر حتى لا تعيشَ تحت ضوء القمر، أو فوق هضاب التلة، ورسمت أسوارُ السجون أعمارَهم بداخل هيكل ينقطعُ فيه النَّفَس، إلا ما تبقى لأجل البقاء على قيد حياة لم يعُدْ لها شبه لمن يسكنون في واسع الرحبة.

 

لم أُوقِدْ ضوءَ مصباحي بعدُ حتى أجرِّب لنفسي لحظاتٍ بغير إنارة، فهل يقطر قلمي عبقًا مريحًا من نسيم كلمات المواساة، أم أني سأحتاج لمراجعة دقيقة لما كتبت تحت فانوس التواضع والتقدير لصبر كل سجين معتقل؟!

هل حلَّ الدمار على أبنية المعاقل، أم سكتةُ صوتٍ لغير رجوع إلى الأهل والمسكن؟! صحيح هو كذلك واقع حصار العقول والسواعد والإرادات، كم للمشهد من وصفات ليست لأدوية باتت تُضمِّدُ جراح الرفض لكل دخيل على العقل والكيان والمنبت، للشجر والزهر عبراتٌ ثقال في أن ترتوي حزنًا وغضبًا على أهل السقيا، مَن غابوا بغير حق يبرر غيابهم عن جمال المنظر في بستان البلدة، لكنه الغضب في أوجِ غليانه في أن السجون لغير الظالمين كسرٌ لعظم السجود للواحد الأحد، ولكن السجود سيتم ولو تحت دويِّ المدافع.

 

خِلْتُ نفسي أحلُمُ بغير ضبط لتوازن أحرفي؛ لأن الدموع تخونني في مفترق الأسطر، هي كلماتي لا تريد فراقًا عند منعرجِ الإقرار بظلم الكوادر، لكني على مَهَلٍ نظمتُ فواصل المشهد؛ حتى لا أسرعَ الخطى إلى أبعد الاحتمالات فيما يحدث بداخل أركان الرماد بوحشة الوصالِ مع غرباء من حرمان الأكل والنوم ورفق المرافق، في أنهم يومًا ما وُلدوا أحرارًا بغير سلاسل ولا لجام لكلام المنطق، في أن الحرية حق موهوب، واستنشاق الهواء مطلب موجود بغير مقابل، لكنه التجاوز بعينه لمن أرادوا حريةً وعيشًا مكفولاً بمكسب الحلال المتواصل.

في برمجةِ حقوق الإنسان صيحاتٌ عديدة على أرجاء دول العالم، ولكنها لم تُحرِّر سجينًا من جَوْرِ الرصاص فوق الأعناق حسًّا مزعجًا لابتهال الألسن وخشوع الأعين في تسابيح الصلاة.

راجعت بنودَ القوانين من بند إلى بند، لم أفهم بل لم أقتنع بفهم المواد في ديباجة المعرض، كلام وفقط حتى تملأ الكتب صفحات من حريرٍ لامع المظهر، جميل أن نفهم دويَّ المدافع من فوق خيمات القبائل المهاجرة من هنا وهناك، ولكن كيف نفهم مساجين لسنوات طوال ضاع فيهم العمر إلى غير مرجع، والسبب أنه لا سبب، فاصلةٌ وسأكمل ختام الكلام، فلي راحةٌ لقلمي من بين أناملي؛ حتى لا يضيعَ الصدق بين تنهيدات روحي لما يحدثُ في كل مكان لما لم يترك لي مجالاً للتعبير عمَّا في قلبي برضا نفس.

لأهل بورما أكثر وقع الألم على ركيزةِ قلمي؛ لأنها أول المشاهد انتشارًا لخروقات الحقوق، عجبًا لطول المنظر في مخيلتي، ولكن سأتخلَّى عن تذكر الصور، لأنتقل إلى مشاهد من سوريا وفلسطين ومصر، هنا الحزن يزلزل دمعي في ترجمة لأهل الخير من قديم الزمان.

سأُسكِتُ صوت قلمي؛ لأني سأسرع في ختام الكلام، لستُ أقوى على زيادةٍ لأكثر من جملة؛ لأني أنا كذلك أعيش في سجن الحنين لعالم مستقر، ولكن سأكتب في الختام:

ما أروع صبرك!

 

بقلم: سميرة بيطام