من حقوق الأم على أولادها
إبراهيم بن محمد الحقيل
من حقوق الأم على أولادها: إحسانهم إليها، والإحسان كلمة جامعة تجمع إيصال كل نفع إليها، ودفع كل ضر عنها، والمبالغة في ذلك
- التصنيفات: الطريق إلى الله - الأدب مع الوالدين -
الحمد لله العلي الأعلى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى . وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى . فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:2- 5]، نحمده على ما هدى وأعطى، ونشكره على ما دفع وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل حق الوالدين تاليًا لحقه، وقرنه بتوحيده وعبادته، وما ذاك إلا لعظيم برهما في شرعه سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ حُرم حنان أبويه، وذاق مرارة اليتم في صغره، وما نسيهما قط، وذات مرة: «زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى من حَوْلَهُ فقال: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لها فلم يُؤْذَنْ لي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لي» (صحيح أبي داود:3234)، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى ربكم، وبروا والديكم، وأحسنوا إلى من أحسن إليكم: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرَّحمن:60]، ولا أحد أكثر إحسانًا إلى الإنسان بعد إحسان الله تعالى وإحسان رسوله عليه الصلاة والسلام من إحسان الأم إلى ولدها: {..حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فقرن سبحانه شكره بشكر الوالدين؛ لعظيم حقهما على أولادهما، وترجحت الأم على الأب بالحمل والولادة والرضاع والحضانة، ولها من الحقوق على أولادها ما يعجزون عن أدائه مهما فعلوا، ولكن على الأولاد أن يسددوا ويقاربوا، ويجتهدوا في بر أمهاتهم ما استطاعوا؛ ففي ذلك رضا الرحمن سبحانه، ونيل خيري الدنيا والآخرة..
ومن حقوق الأم على أولادها: إحسانهم إليها، والإحسان كلمة جامعة تجمع إيصال كل نفع إليها، ودفع كل ضر عنها، والمبالغة في ذلك؛ لأمر الله تعالى به: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ووصيته سبحانه به: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا..} [العنكبوت:8]، ومن ذلك حسن المصاحبة؛ لأنها أحق بها من غيرها، وأصل ذلك أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رَسُولَ الله من أَحَقُّ الناس بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قال: «أُمُّكَ»، قال: ثُمَّ من؟ قال: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قال: ثُمَّ من؟ قال: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قال: ثُمَّ من؟ قال: «ثُمَّ أَبُوكَ» (رواه الشيخان).
وحسن صحبة الولد لأمه عام فيجب أن يبذله لها في حال قوتها وضعفها، وفي حال عافيتها ومرضها، وفي حال شبابها وهرمها، وفي حال قدرتها وعجزها، وفي حال سفرها وإقامتها، وفي حال كونها مقيمة عنده أو بعيدة عنه.. وكل مرحلة من هذه المراحل لها صحبة تناسبها لا بد أن يؤديها الولد، وحسن صحبة الولد لأمه يجب أن يستحضرها الولد في حال حضور أمه عنده أو غيبتها عنه، فلا مواجهته الدائمة لها تقلل هيبتها في قلبه فيتبذل في مجلسها، أو يتذمر من كثرة مطالبها، أو يُشغل بغيرها عنها..
وليس من حسن الصحبة أن تجلس أمه إليه فرحة به وهو منشغل عنها بصحيفته أو بجواله، أو بحاسوبه أو بغير ذلك؛ فإن هذا من سوء المجالسة والمخالطة القادح في حسن الصحبة، وهو مع غير الأم من سوء الأدب، ويخشى أن يكون مع الأم من العقوق؛ لأنه يدل على عدم اهتمامه بمجلسها، ولا إنصاته لحديثها، وكم يقع الأولاد في مثل ذلك وهم لا يشعرون..
دخل رجل على ابن سيرين وعنده أمه، فقال: "ما شأن محمد يشتكي؟ قالوا: لا، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أمه"، وقيل: "كان رحمه الله تعالى يكلم أمه كما يكلم الأمير الذي لا ينتصف منه"، وما ذاك إلا من توقيرها وتعظيمها وهيبتها.
ومن حسن صحبتها أن يحتمل غضبها وفظاظتها إن كانت فظة غليظة، ويقابل ذلك بالحلم والصبر والسعي فيما يرضيها ولو أهانته أمام الناس فهي أمه، ولن يكون احتماله لغضبها وخطئها إلا رفعة له في دينه ودنياه، قال بكر بن عباس: "ربما كنت مع منصور بن المعتمر في مجلسه فتصيح به أمه، وكانت فظة غليظة، فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟ وهو واضع لحيته على صدره، ما يرفع طرفه إليها".
ومن حسن صحبة الولد لأمه أن يسعى في مصالحها، ويقوم على خدمتها، خاصة إذا احتاجت إلى ذلك لكبر أو مرض، وفي قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة فأغلقته فتوسلوا لله تعالى بصالح أعمالهم، كان من أسباب التفريج عنهم أن أحدهم بالغ في خدمة والديه، فأحضر اللبن لهما وقد ناما فمكث الليل كله واقفًا به ينتظر استيقاظهما فسقاهما، واستقت أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي، فذهب فجاءها بشربة، فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح.
وللسلف الصالح أحوال عجيبة في خدمة أمهاتهم والقيام على حاجاتهن، وتلبية مطالبهن، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يلي بنفسه حمل أمه إلى المرفق -أي لقضاء حاجتها- وينزلها عنه، وكانت مكفوفة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر من كانا في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان رضي الله عنهما، فأما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت، وأما حارثة فأنه كان يفلي رأس أمه ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ما أرادت أمي؟".
وعن سفيان الثوري قال: "كان ابن الحنفية يغسل رأس أمه بالخِطْمِي -وهو نبت يغسل به الرأس- ويمشطها ويخضبها"، وعن الزهري قال: "كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه، وكان أبر الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها".
ومن حسن صحبة الولد لأمه أن يسعى جهده في راحتها، وتخفيف الرهق عليها، سواء كان ذلك في حال إقامتها أم في حال سفرها.. كان ظبيان الثوري من أبر الناس بأمه: "وكان يسافر بها إلى مكة، فإذا كان يوم حار حفر حفرة وجاء بنطع فصب فيه الماء، ثم يقول لها: أدخلي تبردي في هذا الماء".
ومن حسن صحبة الولد لأمه أن يسترخص الغالي في سبيل إسعادها، ويستلذ بتحقيق كل مطلب لها مهما كان شاقاً عليه، ولو استدان المال في سبيل ذلك؛ فإنه استدانة في أفضل أنواع البر، ويوشك أن يؤدي الله تعالى عنه وأن يغنيه، قال ابن سيرين: "بلغت النخلة ألف درهم، فنقرت نخلة من جمارها، فقيل لي: عقرت نخلة تبلغ كذا، وجماره بدرهمين؟ قلت: قد سألتني أمي، ولو سألتني أكثر من ذلك لفعلت".
وغيبة الولد عن أمه لبعد سكن، أو سفر عمل، أو غير ذلك يجب أن لا تكون سببًا في نسيانها، وإهمال حقوقها، بحجة أنها عند أبيه أو عند إخوانه؛ إذ إن من حسن صحبته لها -ولو كان بعيدًا عنها- دوام صلتها بالزيارة والمكالمة والهدية والمال وغير ذلك، مع كثرة الدعاء لها في شهودها وغيبتها، فإن الله تعالى ما عبر عن حقها في القرآن بالإحسان إليها، ولا عبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بحسن صحبتها إلا ليكون عامًا في إيصال كل إحسان إليها، في كل أحوالها، وفي حياتها وبعد مماتها، فلا ينقطع الإحسان إليها أبدًا.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: "السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً، وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك".
نسأل الله تعالى أن يرزقنا بر آبائنا وأمهاتنا، وأداء الحقوق التي علينا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، ويرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب..
بارك الله لي ولكم في القرآن..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: كثر في الناس عقوق الأمهات، والانشغال عنهن بالزوجات والأولاد؛ ولأن الأم أضعف الأبوين فيجترئ الأبناء والبنات عليها ما لا يجترئون على أبيهم؛ ولذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ذلك، وخص الأمهات بالذكر فقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ» (رواه الشيخان).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قيل خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء؛ لضعف النساء؛ ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو.. ونحو ذلك".
وقال النووي: "وأما عقوق الأمهات فحرام وهو من الكبائر بإجماع العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عده من الكبائر".
إن بعض الشباب تأمره أمه بأمر فيرفض أمرها، أو يؤخر طلبها، ويقدم مطالب أصحابه على مطالب أمه، وهذا من أبين العقوق، ومن نكران الجميل، ولعظيم حق الأم قرر جمع من العلماء أنها إذا نادته وهو في صلاة النافلة فإنه يقطعها ويجيب أمه، قال مكحول رحمه الله تعالى: "إذا دعتك والدتك وأنت في الصلاة فأجبها".
فكيف بمن تناديه أمه وقد علق هاتفه في أذنه فلا يقطع مكالمته ويجيبها! بل يستمر على حاله وهي تناديه المرة بعد المرة، ولربما كانت هي في حاجة ملحة، وقد يزجرها إن كررت ذلك عليه، وهذا من العقوق الذي يقع فيه كثير من الناس.
وعلى الولد أن يكون فطناً لحاجات أمه فيعرفها قبل أن تبديها له؛ لأن كثيرًا من الأمهات يمنعهن الحياء من إبداء حاجاتهن لأولادهن ولا سيما إن كانوا كبارًا، ولن يفهم الولد مطالب أمه، ويعرف احتياجاتها قبل أن تطلبه إلا بكثرة مجالسته لها، واستعمال نفسه في خدمتها، فيعرف ما تحب وما تكره، ويعرف متى ترضى ومتى تغضب، ويستطيع اكتشاف ما تخفيه عنه من حاجاتها وأحوالها..
ومن فطنة الولد وحسن تعامله مع أمه أن يتعاهدها بالمال، فكلما رزق مالاً اقتطع لها حصة منه لا يخل بذلك أبدًا ولو كانت أمه غنية؛ فيبارك الله تعالى في ماله بسبب ذلك، فإن كانت محتاجة ولا تبدي حاجتها وقع عطاؤه لها في موقعه، وكان ذلك من أبلغ صور البر والصلة، وبر الوالدين سلم يصل بصاحبه إلى الجنة..
وصلوا وسلموا على نبيكم..