آفات على الطريق (1/2)
محمد حسين يعقوب
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق، والهداية فيها، وأوقات السير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطريق".
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
الطريق إلى الله كالطريق الحسية تمامًا، تجد فيها أنفاقًا مظلمة، ومنحنيات خطيرة، ومطبّات مرهقة، و"كباري" علوية، كما تجد أحيانًا على جنبتي الطريق حدائق فاتنة وسبلًا متفرعة، ومن لم ينتبه لمثل هذه، ولم يقده للخروج منها خبير بصير ضل -ولا بد- في الطريق أو انقطع.
وإن معرفة آفات الطريق من المهمات التي ينبغي للسائر الإلمام بخباياها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق، والهداية فيها، وأوقات السير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطريق، ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة من الآية:48]، قال: "سبيلًا وسنة"، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، فالسبيل: الطريق، وهي المنهاج. والسنة: الشرعة، وهي تفاصيل الطريق وحزوناته، وكيفية المسير فيه، وأوقات المسير، فجعل من الهداية في الطريق التخلص من آفات الطريق وحزوناته ومعرفة تفاصيل تلك الحزونات".
فانتبه معي لأخطر هذه الآفات، عافانا الله وإياك منها:
الآفة الأولى: الخوف من وحشة التفرد.
قال بعض السلف: "عليك بطريق الهدى ولا يضرنك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا يغرنك كثرة الهالكين". ومن سنن الله الربانية الكونية أن أهل الحق دائما قلة، هذا أصل ينبغي ألا يفوتك، قال سبحانه {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص من الآية:24]، وقال سبحانه {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ من الآية:13].
وعلى العكس؛ تجد وصف الكثرة دومًا مع أهل الباطل، قال سبحانه {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، وقال سبحانه وتعالى {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام من الآية:116]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ا لنَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة من الآية:49]. فإذا تبين لك ذلك، فإياك أن تستوحش من قلة السائرين معك على الطريق، فإن أكثر السائرين نكصوا على أعقابهم حين رأوا الجمهرة الغالبة على عكس طريق السير أو على جنبات هذا الصراط، فاثبت ولا تحزن.
الآفة الثانية: فضول الكلام والخلطة.
وهذه من أخطر تلك الآفات، الكلام والخلطة أكثر من الحاجة، أن يصير لقاء الناس شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود، وقد قيل: إذا رأيت نفسك تأنس بالخلق وتستوحش من الخلوة، فاعلم أنك لا تصلح لله، وإن من علامات الإفلاس الاستئناس بالناس.
وللعزلة أيها الأخ الكريم مزايا، فإن الاجتماع بالناس لا يخلو من آفات أهونها أن تتزين للخلق، وقد ذكر عن بعض أهل الحديث أنه قال: "لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى حذيفة المرعشي، أخشى أن أتزين له فأسقط من عين الله".
الآفة الثالثة: النفق المظلم (الفتن)
قد يصادف السائرُ في طريقه نفقًا مظلمًا، لا يستطيع أن يميز فيه طريقه من الطرق الأخرى، ما لم تكن أضواء اليقين كاشفة، ومسالك الطريق معروفة، كيلا يضيع السائر مساره، أو يتناثر أشلاء تحت وقع الحادثة، أو يسرف في التفاؤل عندما يبصر نورًا في آخر النفق قد يكون وهم سراب.
إن مثل هذا النفق كفتن الخلاف بين المسلمين، إذ بينما يسير السائر في ركبه الميمون، والطريق سالكة، وهو ينتظر الوصول إلى المحطة التالية، فجأة يظلم الطريق تمامًا كالذي يدخل النفق، يفاجأ بالظلام الدامس بعد النور المبهر، اصطدام بعض المسلمين فيما بينهم، وبغي بعضهم على بعض، فتلتفّ الظلمات، وتنطفئ الأنوار، ويضطر السائر المسكين إلى ركوب الظلمة ودخول النفق، فإذا لم تكن البصائر على يقين والإبصار على وضوح، فالكارثة ستقع لا محالة، ويكون التيه الذي لا يدري فيه ما المخرج.
ولذا، فالأنوار الكاشفة في هذا النفق تتمثل في الاستمساك بوضوح المنهج؛ الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، قال الله سبحانه {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
لا بد أن تنتبه إلى {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}، فالإحسان: الرؤية، ليس مجرد الاتباع، و إنما إحسان الاتباع، والإحسان أن ترى، قال صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه"، هذا أول مخرج من النفق.
أما النور الثاني المخرج من هذا النفق المظلم؛ فهو ألا تشغل نفسك بالمناقشات والجدال والردود، وإنما {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14]، اعرف طريقك وامضِ، فإن كان ولا بد فالْقِ النصيحة وانطلق، فأخسر الناس صفقة من انشغل بالناس عن نفسه، وأخسر منه صفقة من انشغل بنفسه عن الله، فاعرف كواشف الأنفاق، لتخرج من هذا الظلام بسلام.