مذكرات فتاة بائسة

أعيش وسط أسرة كبيرة، يوجد العديد من أمثالي في أسر كثيرة، قليلة الكلام والحركة، آن لكم أن تنظروا في أعماقي، وتأبهوا لأمري، وترفعوا عني المعاناة، ضقت ذرعاً بمعاملتي كفرد في القطيع، أنا كيان مستقل، ولست رقماً بين الأرقام!

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -

أعيش وسط أسرة كبيرة، يوجد العديد من أمثالي في أسر كثيرة، قليلة الكلام والحركة، آن لكم أن تنظروا في أعماقي، وتأبهوا لأمري، وترفعوا عني المعاناة، ضقت ذرعاً بمعاملتي كفرد في القطيع، أنا كيان مستقل، ولست رقماً بين الأرقام!

اليوم سأريكم كيف أنتم معي، لن أكذب أو أظلم فقط سأنقل صوراً من واقعي البئيس بينكم، أحب وجبة الغداء؛ لأن أبي يحرص على مشاركتنا فيها، ولا يتغيب عنها أبداً، في إحدى المرات طلب كوباً من الماء ليشرب، أسرعت لأحضره له، وأسبق إخوتي في خدمته، جئته به وعيناي تبرق فرحاً بإنجازي الرائع، لكن ولسوء حظي تعثرت قدماي، وأوقعت الكوب فانسكب الماء على الطعام، نظر إلي أبي شزراً، وصاحت بي أمي: "غبية، دائماً أنت هكذا لا تحسنين التصرف".

مطت إحدى أخواتي الأكبر سناً مني شفتيها قائلة باستهزاء: "تعلمين أنك تفسدين الأمور دوماً، فلماذا لا تجلسين وتكفينا آذاك؟!" تجمدت خجلاً من فعلتي، ونظرت نحوهم، وكل أحزان الكون تنفجر في أعماقي، وأنا أحاول جاهدة منع دموعي عن الانهمار، حفاظاً على كرامتي التي لم يتبق منها شيء يذكر، وشعرت بأني أتصاغر حتى كأني نملة تتقاذفها أيدي القسوة والجبروت، ولن أنسى إن نسيت أعينهم وقد تقعرت، وهي ترمقني والشرر يتطاير منها وأفواههم التي اتسعت حتى ظننتها ستبتلعني!

ولحظة ظننت أني سأموت كمداً، تداركتني شفقة من أبي فصاح بهم: "كفى، حصل خير"، ثم أخذ بيدي وأجلسني بجواره، عندها غمزني أخي قائلاً: "حمقاء، رأسك فارغ بلا دماغ، لقد أكله القمل"! ظللت بقية نهاري أتساءل بصمت وبراءة: هل دخل القمل بالفعل إلى راسي وأكل دماغي؟! وأخذت أتحسس جلدة رأسي باحثة عن الثقب الذي دخل منه القمل لأعماق جمجمتي! وفي يوم أخر، توجد حركة كثيرة في منزلنا، اصطدمت بوالدتي مرات عدة، وتعثرت كثيراً بجموع إخوتي، وهم يذرعون البيت روحة وجيئة متنقلين من حجر المنزل إلى حجرة الضيوف التي يحظر علينا نحن الصغار دخولها بتاتاً.

ماذا هناك؟ ماذا يحدث اليوم في بيتنا؟ من هؤلاء الضيوف؟ بحّ صوتي، وأنا أتساءل ولا إجابة حتى ظننتني أتكلم لغة لا يفهموها! الإجابة الوحيدة التي حصلت عليها وبصوت عال زلزل كياني الصغير: "اخرجي العبي، ولا ترينا وجهك حتى المساء هيا، وخذي إخوتك الصغار معك"، يا للهول لا أقدر أن أسيطر عليهم، دفعونا بقوة للخارج، وأوصدوا الأبواب.

في اليوم التالي امتلأ المنزل بنساء الجيران، وعلّقت الزينات منذ الصباح على الجدران، وخارج المنزل، وأضيئت الحارة بالأنوار الملونة، وذبحت الخرفان، وجاء رجال كثر لتناول الطعام هم وزوجاتهم، وأصوات المسجل تصم الأذان، وصديقات أختي الكبرى يحتجزنها في إحدى الغرف، ولا يسمحن لأحد بالدخول عليها أو النظر من خلال النافذة المطلة على فناء المنزل! وما زلت أدفع بالأيدي والأبواب، سأجنّ ماذا يحدث في بيتنا؟!

بعد العصر زاد الصخب، وارتفعت حناجر النساء بتلك الأصوات القبيحة التي يسمونها (زغاريد) لكم كانت تفزعني وتؤذي أذنيّ، وعندما لمحت الغرفة التي يحتجزن فيها أختي، وقد فتح بابها، وخرج منها جموع النساء، صمّمت ألا أتراجع حتى أعرف ماذا فعلن بها؟ فاقتحمت الزحام حتى أني لم أتورع عن قرص إحداهن فأخرى وثالثة لكي يفسحن لي الطريق فأراها، وبعد عراك شاق وصلت إلى الحجرة التي علقت فيها زينة، ورفعت الكراسي على المنصة، فرأيت أختي تجلس على إحداها، رأيتها فذهلت لجمالها والورود البيضاء تتدلى حول الخمار الأبيض الشفاف الذي ينسدل من رأسها ليخفي وجه أجمل عروس..

أها هل ستتزوج اليوم؟ لكن بمن؟ من يكون؟ انحشرت وراء كرسيها، وقاومت كل الأيدي التي حاولت سحبي من على المنصة وإنزالي، هي أيضاً دفعتهم عني، وأبقتني إلى جوارها، لكم أحببتها كانت حنونة ومتفهمة، ربما هي الوحيدة التي كانت تكلمني وتسمع لي، هل ستذهب وتتركني مع هؤلاء؟ بل لقد ذهبت بالفعل والدموع تملأ عينيها؛ لماذا كانت تبكي؟ سؤال أرقني طويلاً، حينها تشبثت بعباءتها، وأخذت أبكي، وأيادٍ كثيرة تشدني بعنف، وكلماتهم تلسعني بقوة: غبية، مشاكسة، بليدة لا تفهم، نمت ليلتها والدموع في عيني تتزاحم.

في صباح اليوم التالي قمت من نومي متأخرة، ووجدت الجميع جلوساً في فناء المنزل، يحتسون القهوة ويأكلون الحلوى، صاحوا بي: "سارة تعالي كلي من هذه الحلوى التي جلبها زوج أختك، إنها لذيذة"، ماذا؟ حلوى؟ هل بعتم أختي بالحلوى؟ لا أريد حلوى أريد أختي، وعندما بدأت بالبكاء علت أصوات ضحكاتهم حتى أصابتني بالدوار، وتعليقاتهم المؤلمة ما زالت تلسعني، هذه البنت غبية لا تفهم، ساذجة، بليدة، لقد تزوجت أختك ألا تفهمين؟

أنا لم أفهم لأنها كانت تبكي ولأنهم لم يفهموني وليس لأني غبية كما يدّعون، في الشتاء يكون الليل طويلاً، أنام منحشرة في أضيق زاوية من زوايا حجرتنا أنا وإخوتي وأخواتي الصغار، بعيداً عن النوافذ حتى إذا فتحت عيني ليلاً لا يقع نظري على الأشجار المتمايلة بفعل الرياح، وحتى لا أسمع صفير الرياح، ونباح الكلاب الذي يثير القشعريرة في جسدي، وكذا مواء القطط المؤلم، ودائماً أحرص في الشتاء وفي غيره على تحمل العطش من أول المساء، كي لا أحتاج للذهاب لدورة المياه ليلاً، وتأتيني توجيهاتهم الغير متفهمة: "سارة اشربي كوب الحليب هذا، ما رأيك في العصير؟" لا أريد، لا أريد، "أوف ماذا أفعل مع هذه البنت العنيدة؟ انظروا إليها كيف صارت هزيلة! إنها لا تحب الحليب يا أمي"، تبرعت إحدى أخواتي بالرد نيابة عني كالعادة، غير أنني وفي إحدى الليالي لم أقدر على منع نفسي ومقاومة منظر الحليب الممزوج بالفراولة، فشربت منه حتى اكتفيت، فرحت أمي وقالت: "رائع يا سارة؛ لماذا لم تقولي أنك تفضلين الحليب الممزوج بالفراولة منذ البداية؟!".

يا له من سؤال! وهل كانوا سيستمعون، لم يسبق لهم أن أتاحوا لي فرصة إتمام حديثي، في منتصف الليل، أنا في غاية الضيق، أحتاج الذهاب لدورة المياه، ماذا أفعل؟ تسحبت على الأرض حتى اقتربت من إحدى أخواتي، أغمزها، أقلبها، أشد شعرها، أحرك يديها، يا إلهي كأنها ميتة! والأخرى كذلك، أما الثالثة فقد دفعتني بقوة، وهي نائمة ثم تلحفت بالغطاء، بدأت بالبكاء، أكره الليل، الجميع فيه أموات عدا الكلاب والقطط والرياح والحشرات، آه يا أمي كم مرة رجوتك تتركين إنارة الممر مضاءة.

بعد ثمان سنوات، في المدرسة الثانوية قررت المدرسة إقامة حفل تكريم، طلبتني المديرة للقائها، وفي مكتب الإدارة: "سارة تم اختيارك الطالبة المثالية لهذا العام (ذكاء وأدب وخلق حسن)، ما رأيك بإلقاء كلمة في حفل التكريم؟" قبلت بتردد.

يوم الاحتفال امتلأت الساحة بالحضور، وتوالت فقرات الحفل، وأخذت دقات قلبي تتعالى مع اقتراب موعد خطابي، وعندما لوحت لي إحدى المعلمات بيدها أن اقتربي وارتفع صوت المشرفة: "الآن مع كلمة الطالبات تلقيها على مسامعكم الطالبة المثالية لهذا العام سارة"، وقتها تزايدت ضربات قلبي حتى كأنه سيغادر موقعه، وأخذت أمشي بتثاقل نحو المنصة، وبدا لي الطريق إليها طويلاً جداً، وعندما وضعت أولى قدميّ على درج المنصة تعثرت، فارتفع صوت ضحكات من هنا وهناك غطى صداها دقات قلبي، بدت رغم أنها خافتة، بدت قوية رنانة صمّت أذنيّ فاهتزت الأرض تحت قدميّ وأصبت بدوار شديد وأغميّ عليّ.

عندما أفقت وجدتني ممدّدة على أريكة بغرفة الإدارة والمعلمات من حولي وأمي جالسة بجواري، لم تحضر الحفل وقد استدعتها المديرة فيما بعد، أخذن المعلمات يتهامسن: "إنها خجولة جداً، الموقف كان أكبر منها، خسارة إنها ذكية ومتفوقة".

تساءلت أمي باهتمام واغتمام: "ماذا جرى لك؟ ما هو السبب؟"!
الآن يا أماه تتساءلين عن السبب! الآن فات أوان ذلك، سامحكم الله.
 

نبيلى الوليدي