مسؤولية الأسرة (2)
لقد جعل الله تعالى من المهام الضرورية للأسرة أن تعمل على إيجاد البيئة المناسبة لتكوين شخصية الطفل، نظرًا لما تكتسيه سنواته الأولى في أحضانها من بالغ الأهمية، تلك السنوات التي تتحدد من خلالها ملامح شخصيته وسمات نفسيته، وتنبني عبرها أهم آمال الطفل وطموحاته، وما يحققه من استقلال وإيجابية تربوية، تأسيسًا على ما تمنحه إياه الأسرة من الدفء العاطفي والشعور بالطمأنينة والأمان.
- التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
لقد جعل الله تعالى من المهام الضرورية للأسرة أن تعمل على إيجاد البيئة المناسبة لتكوين شخصية الطفل، نظرًا لما تكتسيه سنواته الأولى في أحضانها من بالغ الأهمية، تلك السنوات التي تتحدد من خلالها ملامح شخصيته وسمات نفسيته، وتنبني عبرها أهم آمال الطفل وطموحاته، وما يحققه من استقلال وإيجابية تربوية، تأسيسًا على ما تمنحه إياه الأسرة من الدفء العاطفي والشعور بالطمأنينة والأمان.
فالأسرة مسؤولة عن توفير الجوّ الأسري الذي تتأسس فيه الوشائج والروابط لدى الطفل على أساس من المحبة والثقة والصدق والتفاهم والنصح والمشورة، بل لا بد أن تسعى إلى تزويده بجميع مكارم الأخلاق التي بُعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتتميمها وتأصيلها وتعميقها،كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (الموطّأ/كتاب حسن الخلق/باب ما جاء في حسن الخلق/ح(8)،وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة:45).
فالتربية على مكارم الأخلاق تجعل الذرية صالحة، وذلك هو مطلب الأنبياء والصالحين الذين كان سؤلهم جميعا للذرية مقيدًا بصلاحها، فهذا زكريا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، مطابقة لسلامة الفطرة التي فطر الله عليها عباده رغبة في الامتداد الطبيعي وحسن الخلف. وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فالطموح الوجداني لهؤلاء الخيرة أن تكون ذراريهم موحدة تعبد الله وحده لا تشرك به شيئًا، مستقيمة في منهجها وسلوكها وعبوديتها لله تعالى.
وفي إطار ذلك يضيف إبراهيم عليه السلام قائلاً: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي...} [إبراهيم:40]، فشغلهم الشاغل أن تكون تلك الذرية على وجه يرضي الله عز وجل. وعلى ذلك المنهج دأب المؤمنون الذين نالتهم تزكية الله تعالى، فقد جعلوا من صلاح الذرية مطلبهم الرئيس، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15]، فالمؤمن قلبه معلّق بصلاح ذريته وهداية عقبه، واستقامتهم على توحيد الله تعالى وعبادتهم له وحده، والدعوات تمتد من الوالدين إلى الذرية لتطال كل الأجيال المتعاقبة، تلك الدعوات التي تنم عن حرص منقطع النظير على صلاح الذرية، ذلك لأن الذرية حتى تكون مؤهلة للخيرية التي منحها الله تعالى لهذه الأمة لابد أن تتصف بالصلاح، في إيمانها بالله تعالى وإقامتها لشعائر دينه والاحتساب لإصلاح خلقه، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، ومن أجل مستويات المسؤولية أن نربي في أولادنا الاستعداد والتلهف على تحصيل تلك الخيرية بأطرهم على منهج الحق وتعويدهم على مهيع الحق.
فلا بد أن نغرس فيهم التعلق بالمنهج الربّاني الذي به تنال الكرامة ورفعة المقام، ونشيد شخصياتهم على الاهتداء بالهدي النبوي، وعلى أنهم ليسوا إلا حلقة من مجتمع يقوده زمام الوحي، الذي لا يكون له توجيه إلا منه ولا يكون له إرشاد إلا به. بعيداً عن التلقي من أمم الظلام ومحافر الجهل وحضارات الإخلاد إلى الأرض.
إن الأسرة مطالبة بتسيير الرضيع على خطى سلفه من الصالحين حتى وهو في مهده يخوض غمار الحياة أو الموت منقذًا لوالديه من النار وقائداً لهم إلى طريق الهدى والرشاد ومشجعاً لهم على التضحية والإقدام حين يكون منهم أي تردد أو تقصير.
إنها التربية التي تأخذ بمجامع الطفل إلى محبة الحق والسكون إليه والقبول به والنفور من الباطل ومعارضته والابتعاد عن طريقه.
فذلك النموذج من التربية به تتحقق الآمال المعلقة على مسؤولية الأسرة عن النشء، فيرفل أفرادها في أجواء السعادة وينعمون بقرة العين في الدنيا والآخرة، وذلك النموذج هو الذي يجسد الشمولية التي يتميز بها الخطاب الإسلامي في عنايته بالفرد والمجتمع، وفي اعتلائه بالجوانب التربوية الشرعية النظرية، وتطابقه مع بعد النظر التربوي الديني التطبيقي الذي تأسس عليه مبنى هذه الشريعة المباركة اتساقًا وتكاملًا مع الفطرة وحفظ سلامتها من العوائق والمنغصات التزامًا بالمحجة التي تطابق تلك الفطرة التي ذرأ الله عليها عباده قبل أن تجتالهم الشياطين، وقبل أن تنكب بمن اجتالت منهم جادة الصواب كما جاء في الحديث القدسي: «خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» (أخرجه مسلم/كتاب الزهد/باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار/ح(2865)عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه).
وبذلك الاجتيال يكون البعد عن الفطرة التي برئ عليها كل مولود، قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» (أخرجه البخاري/كتاب الجنائز/باب ماقيل في أولاد المشركين/ح(1385)كتاب القدر/باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين/ح(2658)عن أبي هريرة رضي الله عنه). وهذا النص صريح في أن المربي الأول للأبناء هو الأسرة ممثلة في الأب والأم، اللذين يسر الله تعالى لهما سبل تلك التربية بما جبلهما عليه من محبة الخير لأبنائهما؛ جبلة تستوجب منهما أعلى مستوى من العناية بأبنائهما، ذلك أنهما يعتبران هؤلاء الأبناء امتدادا لهما في الحياة وبعد الممات وهو أمر صوره القرآن في مواقف جمة؛ منها قوله تعالى حاثا الولد الصالح على الدعاء لأبويه: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما لذلك الامتداد من قيمة دنيوية وأخروية إن هما خلفا ذرية صالحة بقوله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث:صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم (1631)).
والأولاد مع ذلك بالنسبة لآبائهم زينة الحياة الدنيا، قال جل في علاه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، وبهذا تكون الدوافع قوية لدى الأسرة السليمة في حرصها على إعداد أكرم الأبناء وأفضل الأولاد؛ لتحصيل ذرية تجسد مستوى الأسرة ومقامها وتعكس واقعها وحياتها قد امتلأت جوانحها إيمانا وتقوى وفاضت بالمثل العليا مسارب دمائها.
أحمد ولد محمد ذو النورين