سور النّور العظيم
ناصر بن سليمان العمر
إنّ هذا السُّورَ الّذي نعنيه، سورٌ قرآنيٌّ، ليس سورًاً حجريًّاً، مثل تلك الأسوار التي كانت تُحاط بها المدن القديمة، لت?تميَ بها من أعدائها، فسور المدينة هو البناء العظيم الشّاهق الحصين، الّذي يحمي المدينة من كلّ خطرٍ يمكن أن تتعرّضَ له من أعدائها، ولقد ظلّ هذا التّقليد أو هذا التَّدبيرُ الوقائيّ معمولاً به إلى عهودٍ قريبةٍ من تاريخنا المعاصر، ومن أشهر هذه الأسوار: سور الصّين الكبير، الّذي شُيّده الصّينيون لحماية بلادهم من الأعداء المقتحمين، ولكن أين كلُّ ذلك من سور النّور العظيم، الّذي أنزله الله -عزّ وجلّ-، ليكون جدارًا واقيًا للمجتمع الإسلاميّ، من نزغات وغزوات شياطين الجنّ والإنس.
- التصنيفات: ترجمة معاني القرآن الكريم -
إنّ هذا السُّورَ الّذي نعنيه، سورٌ قرآنيٌّ، ليس سورًاً حجريًّاً، مثل تلك الأسوار التي كانت تُحاط بها المدن القديمة، لت?تميَ بها من أعدائها، فسور المدينة هو البناء العظيم الشّاهق الحصين، الّذي يحمي المدينة من كلّ خطرٍ يمكن أن تتعرّضَ له من أعدائها، ولقد ظلّ هذا التّقليد أو هذا التَّدبيرُ الوقائيّ معمولاً به إلى عهودٍ قريبةٍ من تاريخنا المعاصر، ومن أشهر هذه الأسوار: سور الصّين الكبير، الّذي شُيّده الصّينيون لحماية بلادهم من الأعداء المقتحمين، ولكن أين كلُّ ذلك من سور النّور العظيم، الّذي أنزله الله -عزّ وجلّ-، ليكون جدارًا واقيًا للمجتمع الإسلاميّ، من نزغات وغزوات شياطين الجنّ والإنس.
ومن المعلوم أنَّ علماء القراءات وغيرهم، قد يسمون السورة القرآنية، بأول ما جاء فيها، وكانت أول كلمةٍ في سورة النور هي كلمة (سورةٌ)، التي تكثّفت فيها كلُّ معاني سورة النُّور، فبدت وكأنّها سورٌ من الأحكام المتتابعة المرصوصة بإحكام، يُقوّي بعضُها بعضًاً، قد أنزلها الله -عزّ وجلّ-، لتكون لها الحاكميّة على العباد: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آياتٍ بيّناتٍ} أي: أحكامًا جليلة، وأوامرَ وزواجر، وحكمًا عظيمة: {لعلكم تذكّرون}.
ثمّ في الآية الثّانية مباشرةً، وعند أول كلمتين منها، قوله تعالى: {الزّانية والزاني}، يبرز الطّرفان اللّذان يمثّلان أكبرَ خطرٍ يمكن أن يهدد المجتمع المسلم، فالأمر يتعلّق إذن بأفحش الفواحش، وهي الّتي من أجل مواجهتها، ومواجهة ما عداها من الأخطار، كانت الأحكام المحكمة لسورِ النُّور العظيم، حيث تمثّل أول حكمٍ من الأحكام التي فرضتها، لردع المفسدين ومتّبعي الشّهوات، وحماية المجتمع المسلم منهم، في حدّ الزّنا، وما يرتبط به من تحريم نكاح الزّواني والزُّناة على المؤمنين.
أمّا الحكم الثّاني الّذي فرضته السّورة، لتُقوّي به الحكم الأول، فهو حدُّ القذفِ، الهادف إلى تنقية المجتمع المسلم، من قالة السّوء، ومن رمي النّاس بعضهم بعضًاً، بلا دليلٍ أو برهان، وما يرتبط به من عدم قبول شهادة القَذّفة، ودمغهم بالفسق.
أمّا الحكم الثَّالث الّذي فرضته سورة النور، لتُقوّي به الحُكمين الأولين، فهو ما قرّرته بين الزَّوجين من أحكام اللّعان، وما يترتّب عليها من رجمٍ أو فرقةٍ أو نسب.
ثمّ بعد تقرير هذه الأحكام الثّلاثة، وما يُكمّلها، حتّى تشكّل منها ومن تفاصيلِ حيثيّاتها سورًا مترابطًاً مُحكمَ البناء، يشدُّ بعضه بعضًاً، تنتقل سورة النّور بالمسلمين في كلّ عصرٍ، وفي كلّ مجتمعٍ، إلى المجتمع الإسلاميِّ في المدينة المنورة، عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لتُسلط أضواءً كاشفة، على أكبر ابتلاءٍ مرَّ به هذا المجتمعُ، ألا وهو حادث الإفك، الّذي هزّ بيت النّبوّة، فاهتزّت بهِزَّته المدينةُ كلّها، تئنُّ من شدّة الكيد العظيم، الّذي افتراه المنافقون، إذ رمَوا أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، الحَصَان الرّزان، العفيفة الطاهرة، بالإفك المبين، فبرّأها الله -عزّ وجلّ- من فوق سبع سماواتٍ! فيا للفرج بعد الشّدّة! ويا للسّعة بعد الضّيقة!
وفي هذه النُّقلة، درسٌ واقعيٌّ ملموس، فيه تنبيهٌ وتحذير، من المخطط الكبير الّذي يقوم به المندسون من المنافقين ومن يُمثّلهم في كلّ مكانٍ أو زمان، وفيه بيانٌ لطبيعة المخطط الّذي يتَّبعونه، والّذي عادةً ما يقوم على تهييج الشَّهوات، وإثارة أسباب الفواحش، حتّى تشيع في المجتمع، فهم يعرفون جيّدًا أنّ صِمام الأمان في المجتمع الإسلاميِّ، إنَّما يتمثّلُ في شرفه وعفافه وأخلاقه، لذا فهم يعملون بكلّ جدٍّ، وبكلّ مَكرٍ، على نزع فتيل الأمان، مفتعلين المعارك الوهميّة، ليُحقّقوا من ورائها أهدافهم الكبيرة.
ثمّ تجيء أحكامُ الاستئذان، لتُشكّل قاعدةً قويّةً من قواعد سور النّور العظيم، حيث "يُرشد الباري عباده المؤمنين، بأن لا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم بغير استئذان"، ثمّ يتبع هذه الأحكام: أمرُ المؤمنين والمؤمنات بالغضِّ من الأبصار وحفظ الفروج، في تشريعٍ مفصّلٍ محكم، يأتي ليُقوّي من بناء السُّور العظيم، الّذي تبنيه السّورة، لحفظ المجتمع المسلم، وسدّ كلّ ذريعةٍ تؤدّي إلى الوقوع في الفاحشة، ويرتبط بذلك أمرُ الله -تعالى- الأولياء والأسيادَ، بإنكاح مَن تحت ولايتهم من الأيامى، وما يتعلّق به من أوامر.
ولا شكَّ أنّ من التزم بهذه الأحكام، فغضّ بصره، والتزم بآداب الاستئذان وألزم بها أهله وصغاره، وما إلى ذلك من الضَّوابط والأحكام التي تضمّنتها السورة، لا شكّ أنّ الله سيقذف في قلبه النّور والإيمان، ومن ثمّ تجيء الآية التي حملت السورةُ اسمها، وهي قوله تعالى: {الله نور السّموات والأرض} نورها الحسّي والمعنويّ، فمن دون نوره لا يكون إلا ظلامٌ في ظلامٍ. ثمّ ذكر الله -تعالى- الأماكن التي تكون مظنّةً لنور الإيمان والقرآن، ألا وهي المساجد، منوّهاً بها في قوله -تعالى-: {في بيوتٍ أذن الله أن تُرفعَ ويُذكر فيها اسمه} ولا ريبَ أنّ التّنويه بالمساجد وعمّارها، والإشارة إلى عظيم دورها ودورهم، في حفظ أخلاق المجتمع وشرفه وأعراضه، ينسجم مع موضوع سورة النور، وهدفها الأساسيّ.
ثمّ في مقابل المؤمنين، يجيء ذكر الكافرين، وبيانُ حالهم ومآلهم: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ} إلى آخر الآية [النور: 40].
ثمّ تنتقل سورة النور بالمؤمنين، إلى مشهدٍ كونيٍّ، يجعلهم يشعرون بأنّهم مهما تكالبت عليهم قوى الباطل، فإنّهم يمُتّون إلى نظام هذا الكون العابد لربّه، بسببٍ وثيقٍ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]، ومن ثمّ يبدو الكفّار والمنافقون، هم النّشاز والشّواذُّ، ومن ثمّ تجيء مجموعة الآيات من الآية (47) إلى الآية (50) لتكشف عمّا في دواخلهم من المرض والرَّيب والشّكّ، ثمّ تنتقل الآيات عنهم إلى المؤمنين، مبيّنةً ما يتميّزون به من التّسليم لحكم ربّهم، (الآيتان: 51، 52)، لتعود مرّةً أخرى إلى المنافقين (الآية 53) وهكذا تنتقل الآيات ما بين الفريقين، إلى الآيتين (58، 59): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} فبعد الانشغال بأمر المنافقين والكافرين، والتّنبيه إلى خطرهم على المجتمع الإسلاميّ، تعود بنا هاتان الآيتان، إلى عمليّة بناء السّور المتين من الأحكام التي تحفظ المجتمع الإسلاميّ، وتُحصّنُه في مواجهة أذى الكافرين والمنافقين. ثمّ تجيء الآية الستون لتُبيّن ما للقواعد من النّساء من الخصوصيّة، مع ندبهن إلى ما فيه الخيرية، تتبعها الآية الحادية والستون، رافعةً الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض مطلقاً، ثم عن ذوي القربى والأصدقاء في أن يأكل بعضهم من بيوت بعضٍ.
ثمّ من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء، يتمّ الانتقال إلى تنظيم العلاقات في إطار الأمر الذي يهمّ المجتمع المسلم ككل، حيث تجيء في ختام السورة، الآياتُ (62 - 64) التي تبيّن الآدابَ النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها، ولا شكّ أنّ لذلك كلّه أثره الكبير، في تمتين السّور العظيم الذي تستهدف سورة النور بناءه في أيّ مجتمعٍ مسلمٍ، سواءٌ كان على مستوى الدولة، بتشريع الحدود الزّاجرة، أو على مستوى الأسرة الصغيرة، ببيان أحكام استئذان الصّغار والعبيد، أو على مستوى العلاقات الاجتماعيّة، ببيان أحكام غضّ البصر، والحجاب، والاستئذان، هذا إضافةً إلى التّحذير من الطابور الخامس، من المنافقين وأتباعهم في كلّ مكانٍ، ثمّ تنبيه المؤمنين إلى ما يجبُ عليهم تجاه قيادة المجتمع.