أبو هريرة رضي الله عنه، الصحابي المُفتَرى عليه

بعد أن حاول أعداء السنة التشكيك في عدالة الصحابة، كخطوة أولى لتمهيد السبيل، وفتح الباب للطعن والتشكيك في أفرادهم وآحادهم -طالما أن عدالتهم وديانتهم قد سقطت-، جاءوا إلى بعض الصحابة الذين عرفوا بكثرة الحديث والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجهوا سهام النقد إليهم، ورموهم بكل نقيصة، سعياً منهم إلى نزع الثقة فيهم، وبالتالي إهدار جميع مروياتهم، وعدم اعتبار أي قيمة لكتب السنة التي أخرجت هذه الأحاديث، وأجمعت الأمة على تلقيها بالقبول، وهذا هو ما يريدون التوصل إليه.

  • التصنيفات: الدفاع عن علماء أهل السنة والجماعة -

بعد أن حاول أعداء السنة التشكيك في عدالة الصحابة، كخطوة أولى لتمهيد السبيل، وفتح الباب للطعن والتشكيك في أفرادهم وآحادهم -طالما أن عدالتهم وديانتهم قد سقطت-، جاءوا إلى بعض الصحابة الذين عرفوا بكثرة الحديث والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجهوا سهام النقد إليهم، ورموهم بكل نقيصة، سعياً منهم إلى نزع الثقة فيهم، وبالتالي إهدار جميع مروياتهم، وعدم اعتبار أي قيمة لكتب السنة التي أخرجت هذه الأحاديث، وأجمعت الأمة على تلقيها بالقبول، وهذا هو ما يريدون التوصل إليه.

 

ولا يوجد أحد من الصحابة تعرّض لحملاتٍ جائرةٍ مسعورة، بمثل ما تعرّض له الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، وهي حملاتٍ ليست جديدةً في الحقيقة، فقد أطلق بعض أهل الأهواء ألسنتهم فيه منذ القدم لتسويغ بدعتهم وانحرافهم، فنقل الإمام ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث"، الكثير مما رُمِيَ به أبو هريرة في القديم من قبل النِّظام والإسكافي وأمثالهما من أهل البدع والأهواء الذين لهم مواقف معروفه من أكثر الصحابة، حتى جاء بعض المستشرقين من أمثال "جولد زيهر"، فوقعوا على أقوال المتحاملين فأخذوا وزادوا، وأبدؤوا وأعادوا، ثم طلعوا علينا بآراء مبتسرة وأحكام جائرة، تلقفها بعض أبناء جلدتنا فأعادوا صياغتها وتعليبها، وقدَّموها للناس على أنها حقائق علمية، ونتائج موضوعية لم يسبق التوصل إليها.

 

فأما "أحمد أمين" فقد وزّع طعونه على أبي هريرة في مواضع متفرقة من "فجر الإسلام"، وكان حديثه عنه حديث المحترس المتلطَّف المحاذِر من أن يجهر في حقه بما يعتقده من سوء، ولكن أسلوبه، وتحريفه لبعض الحقائق في تاريخ أبي هريرة، وحرصه على التشكيك في صدقه، وادعاء شك الصحابة فيه، والتركيز على عرض الأمور التي يسيء ظاهرها لأبي هريرة، وإغفال الجوانب الأخرى التي تبين مكانته بين الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، وثناءهم عليه، وإقرارهم له بالصدق والحفظ والإتقان، مما هو ألصق وأشد تعلقاً بموضوع البحث أكثر من أي شيء آخر، كل ذلك أبان قصده، وكشف الستار عن مراده.

 

وأما "أ بو رية" -عامله الله بما يستحق- فقد كان أفحش، وأسوأ أدباً من كل من تكلم في حق أبي هريرة من المعتزلة والرافضة، والمستشرقين قديماً وحديثاً، مما يدل على سوء نية وخبث طوية، حيث عرض لترجمته في كتابه "أضواء على السنة المحمدية"، فيما يربو على خمسين صفحة لم يدع منقصة، ولا مذمة إلا ألصقها به، وألف كتاباً مستقلاً ضمنه كل إفك وبهتان، وملأه بكل جارح من القول، وتهجم فيه على أبي هريرة وغيره من الصحابة، ورماهم بالكذب والاختلاق، وسمَّى كتابه "شيخ المضيرة أبو هريرة"، وهو عنوان يقطر حقداً وسخرية وتنقصاً لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب يرجع إليه ويعتمد عليه كل من لا خلاق له ممن يطعن في الصحابة ويسبهم، وتدور مطاعنه، في احتقاره، وازدراء شخصيته، واتهامه بعدم الإخلاص في إسلامه، وعدم الصدق في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه لبطنه وللمال، وتشيّعه لبني أمية إلى غير ذلك من الإفك والبهتان.

 

وسنعرض لشيء من هذه المطاعن على جهة الإشارة، لا على جهة الحصر والاستقصاء، والوقوف عند التفصيلات والأمثلة، فذلك أمرٌ يطول، وقد كفانا مؤنةً ذلك الأئمة والعلماء الذين قيضهم الله عز وجل للدفاع عن هذا الصحابي الجليل، فردوا كل ما قيل في حقة من مطاعن وافتراءات، وكشفوا نوايا هؤلاء المغرضين، وبيّنوا الحق من الباطل، وميزوا الطيب من الخبيث، في بحوث ودراسات علمية معروفة ومتداولة، قائمة على النزاهة في البحث، بعيدة كل البعد عن الهوى والعصبية، ويمكن لكل طالب حق أن يرجع إليها، ليعرف شهادة التاريخ الصادق، ورأي صحابة رسول الله، وعلماء التابعين، وأئمة المسلمين، في هذا الصحابي الجليل، ويقارَن بعد ذلك بين هذه الصورة المشرقة، وبين الصورة التي أراد هؤلاء أن يظهروه بها.

 

فقد غضوا من شأنه، وطعنوا في أصله ونسبه، مدعين أنه لم يكن معروفاً في أوساط الصحابة، وأنه كان غامض الحسب، مغمور النسب، ولم يعرف إلا بكنيته، بدلالة أن الناس اختلفوا في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، مع أن الخلاف لا يتجاوز عند التحقيق ثلاثة أقوال كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، ونحن نجد عشرات الصحابة اختلف في أسمائهم إلى أكثر من ذلك، وكثير منهم إنما اشتهروا بكناهم لا بأسمائهم، فلماذا هذا التشويش بالذات على أبي هريرة رضي الله عنه، ومتى كان الاختلاف في اسم الرجل يشينه أو يسقط من عدالته؟

 

وزعموا أنه كان مغموراً، لم يذكر في طبقات الصحابة، وليست له أي فضيلة أو منقبة، مع أن المعروف من ترجمته أنه كان ممن هاجر بين الحديبية والفتح في العام السابع من الهجرة، وأنه صاحَب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازمه ما يربو على ثلاث سنين، ويكفيه ذلك فضلاً وشرفاً، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم له ولأمه أن يحببهما إلى عباده المؤمنين كما في الصحيح، وكان عريف أهل الصفة، وهم أضياف الإسلام، وأحباب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكره الإمام مسلم فيمن لهم فضائل من الصحابة، وعقد له الإمام النووي باباً في شرحه على مسلم، وذكر الحاكم في مستدركه جملة صالحة من مناقبه استغرقت بضع صفحات، وأما البخاري فهو وإن لم يعقد له ترجمة خاصة، لكنه ذكر فضائله ضمن أبواب كتابه، ومنها كتاب العلم.

 

وطعنوا في صدقه وديانته، وأنه إنما أسلم حباً في الدنيا لا رغبة في الدين، وهي دعوى يُكذِّبها كل من يطالع سيرته وترجمته، وما كان عليه رضي الله عنه، من التقشف والانقطاع إلى العلم والعبادة، وتبليغ أحاديثه صلى الله عليه وسلم.

 

ثم بحثوا عن كل عيب يمكن إلصاقه به، حتى ولو كان من الأمور التي لا يعاب المسلم بها، ولا تعلق لها بالحديث والرواية.

 

فعيروه بفقره وجوعه، ومتى كان الفقر عيباً يعير به الإنسان إلا في منطق المتعالين المتكبرين؟!

 

وعيروه بأُمِّيتِه، وهل كانت أمية الصحابي سبباً للطعن فيه في أي عصر من عصور الإسلام ؟! حتى تذكر من جملة المطاعن، ونحن نعلم أن الكتبة من الصحابة قليل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.

 

وجعلوا من لطافة أخلاقه، وطيب معشره مدخلاً للنيل منه، فوصفوه بأنه كان مزّاحاً مهذاراً، مع أنه خلق أكرمه الله به، وحببه به إلى الناس، ومتى كان المزاح المباح، والتلطُّف إلى الناس والتودد إليهم خلقاً معيباً عند كرام الناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ومع ذلك كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقاً، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم، فما هو الحرج في المزاح إذا كان مباحاً لا إسفاف فيه، ولا إيذاء لأحد، وفيه من المعاريض التي تدعو إلى إعمال الفكر والنظر، وكل الذي ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، إنما هو من هذا القبيل، وأما المزاح الساقط، المشتمل على المجازفة ورديء القول والفعل، فحاشا وكلا أن يكون أبو هريرة مما عرف به.

 

ثم لماذا يركز على هذا الجانب فقط من ترجمة أبي هريرة، وتغفل الجوانب الأخرى التي عرف واشتهر بها بين الناس ورواها كل من ترجم له، أين هي أخبار عبادته وصيامه وقيامه، وتسبيحه وأوراده؟!، أين هي أخبار كرمه وجوده، وزهده وتقشفه وإعراضه عن الدنيا؟!، لماذا لا تذكر هذه الأمور عند التعرض له، لا شك أن وراء الأكمة ما وراءها.

 

ورموه أيضاً بعدم الفقه وقلة الفهم، وهو محض افتراء على التاريخ، والواقع أنه كان من فقهاء الصحابة، ومن كبار أئمة الفتوى، كما يذكر ذلك أهل التراجم والطبقات فقد ذكره ابن سعد أنه ممن كانوا يفتون بالمدينة منذ مقتل عثمان إلى أن توفي رحمه الله، وهذا يعني أنه مكث يفتي الناس على ملأ من الصحابة والتابعين ثلاثة وعشرين عاماً، وكان يعارض أجلاء الصحابة كابن عباس في بعض المسائل، وعده ابن حزم في فقهاء الصحابة، وكذا الحافظ بن حجر في الإصابة، وجمع تقي الدين السبكي جزءاً في فتاوى أبي هريرة، وقال الإمام الذهبي في تذكرة الحُفّاظ: "أبو هريرة الدوسي اليماني، الحافظ الفقيه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى، مع الجلالة والعبادة والتواضع" أهـ، وعندما ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين المفتين من الصحابة، وأنهم كانوا بين مكثرٍ ومُقِلٍ ومتوسط، ذكر أبا هريرة من المتوسطين مع أبي بكر الصديق، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فمن زعم بعد ذلك أن أبا هريرة غير فقيه فهو العاري عن الفقه.

 

وقالوا: إنه لم يكن يكتب الحديث، بل كان يحدث من ذاكرته، مع أن ذلك شيء لم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه، بل هو صنيع كل من روى الحديث من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا عبد الله بن عمرو بن العاص فقد كانت له صحيفة يكتب فيها.

 

وادّعوا كذلك؛ أنه لم يكن يقتصر في تحديثه على ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل كان يُحدِّث عنه، بما أخبره به غيره، واعتبروا ذلك منه تدليساً، مع أن المعروف عند أهل العلم أن رواية الصحابي عن الصحابي وإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تُسمّى تدليساً، بل تُسمّى إرسالاً، وقد أجمع أهل العلم على الاحتجاج بمرسل الصحابي وقبوله، وأن حكمه حكم المرفوع، لأن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي مثله، والصحابة كلهم عدول، فكون أبي هريرة يرسل بعض الأحاديث التي سمعها من غيره من الصحابة هذا أمر لا يعيبه ولا ينقص من قدره، ولا يختص به وحده، فقد كان ذلك شأن كثير من الصحابة الذين لم يحضروا بعض مجالسه صلى الله عليه وسلم إما لاشتغالهم ببعض أمور المعاش، وإما لحداثة أسنانهم كابن عباس وغيره، وإما لتأخر إسلامهم، ويؤيد ذلك قول أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه ولكن لم يكذب بعضنا بعضاً"، كما أن الأحاديث التي أرسلها هي شيء يسير مقارنة بما سمعه مباشرة بدون واسطة، وقد تتبع الحافظ العراقي ما رواه عن غيره فجمع عشرين حديثاً فيها ما لا يصح.

 

وانتقدوا أيضاً كثرة أحاديثه -التي بلغت كما جاء في مسند بقي بن مخلد 5374-، مع تأخر إسلامه حيث إنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث سنين، مدعين أن بعض الصحابة قد انتقدوه على إكثاره، وشكوا فيه.

 

وكل باحث متجرد يجزم بأن سبب هذه الكثرة إنما هي طول ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، خلال هذه الفترة، مع ما حباه الله من قوة الحفظ والذاكرة، ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك تفرغه التام من الشواغل والصوارف، فقد كان من فقراء الصحابة ومن أهل الصفة، ليس له أهل ولا ولد ولا مال، وكان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم على ما يُقِيم به صلبه، ولا شك أن المتفرغ للشيء، المهتم به، المتتبع له، يجتمع له من أخباره، والعلم به في زمن يسير، ما لا يجتمع لمن لم يكن كذلك.

 

وبعد أن تفرّق الصحابة في الأمصار على عهد الخلفاء الراشدين، رأى أن من الواجب عليه، أن يبلغ ما حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته، وخاف عاقبة الكتمان إن هو امتنع عن التحديث، فتفرغ للعلم والرواية والتحديث، وكان من الطبيعي أن يثير إكثار أبي هريرة من الحديث استغراب بعض التابعين، ولكن ما أن يبين لهم سبب ذلك، حتى يزول هذا الاستغراب والدهشة، فقد جاء في الصحيحين عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر، والله الموعد، ويقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه، وسأخبركم عن ذلك: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أَرَضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: «أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس شيئا سمعه»، فبسطتُ بُردةً علي، حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري، فما نسيتُ بعد ذلك اليوم شيئاً حدثني به، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدّثتُ شيئاً أبداً: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبِيِّنَاتِ وَالْهُدَىْ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160].

 

ولا يوجد أبداً نص ثابت يفيد بأن الصحابة رضي الله عنهم شكوا فيه، أو صرّحوا بكذبه، أو منعوا من الاستماع إليه، بل نصوص التاريخ الثابتة، كلها تقطع بإقرار الصحابة له بالحفظ، واعترافهم بأنه كان أكثرهم اطلاعاً على الحديث، وربما استغرب أحدهم بعض أحاديثه، ولكنه لا يلبث إلا أن يسلم له، ويقبل منه، ويعترف بإحاطته وحفظه.

 

ذكر ابن سعد في الطبقات أن أبا هريرة رضي الله عنه حدَّث ذات مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث «من شهد جنازة فله قيراط»، فقال ابن عمر: "انظر ما تُحدّث به يا أبا هريرة فإنك تُكثِر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فذهب به إلى عائشة، فقال: أخبريه كيف سمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فصدَّقَت أبا هريرة، فقال أبو هريرة: يا أبا عبد الرحمن والله ما كان يشغلني عن النبي صلى الله عليه وسلم غرس الوَدِيِّ، ولا الصفق بالأسواق، فقال: ابن عمر: "أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه " وأصله في الصحيح.

 

وأخرج ابن كثير في تاريخه عن أبي اليسر عن أبي عامر قال: كنتُ عند طلحة بن عبيد الله، إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد، والله ما ندرى هذا اليماني أعلم برسول الله منكم؟ أم يقول على رسول الله ما لم يسمع، أو ما لم يقل، فقال طلحة: "والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد عَلِمَ ما لم نعلم، وسَمِعَ ما لم نسمع" وقد رواه الترمذى أيضاً.

 

كل ذلك يؤكد على أن صدق أبي هريرة لم يكن أبداً محل نِزاع أو شك عند الصحابة ولا من بعدهم من التابعين.


 

وأما ما ورد من أن عمر نهاه عن التحديث، وقال له: "لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس"، فإنه على افتراض صحة هذه الرواية، فقد كان ذلك في ظرفٍ معين، فعندما رأى أبو هريرة رضي الله عنه أن من الواجب عليه أن يُحدِّث الناس بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجاً من إثم كتمان العلم، ألجأه ذلك إلى أن يُكثِر من رواية الحديث، فربما سرد في المجلس الواحد الكثير من الأحاديث، وكان عمر رضي الله عنه، يرى أن يشتغل الناس بالقرآن، وأن يُقلُّوا الرواية عن رسول الله في غير أحاديث العمل، وأن لا يُحدِّث الناس بأحاديث الرُّخَص لئلا يتكلوا عليها، إلى غير ذلك من الأمور، ومن أجل ذلك قال لأبي هريرة ما قال، لأنه كان أكثر الصحابة رواية للأحاديث، فلم يقل ذلك تكذيباً له ولا شكاً في حديثه -وقد ذكر هذا التوجيه الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية-، كما ذكر أنه أذن له في التحديث بعد ذلك" (انظر سير أعلام النبلاء (2/601)).

 

وهذا التوجيه إنما هو على فرض صحة هذه الرواية وثبوتها، ولكن دون ذلك -كما قال المَعلَمي في الأنوار الكاشفة- مفاوز وقفار تنقطع فيها أعناق المطي، وقد ذكر ما يثبت عدم صحة الخبر.

 

وأما ما يروونه من أن عمر رضي الله عنه ضربه بالدرة، وقال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأَحْرِ بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فكل ذلك كذب مفضوح، لا يوجد في أي مصدر معتمد، وإنما هي أخبار مستقاةٍ من مصادر أقل ما يقال عنها، إنها مصادر غير معتمدة في البحث العلمي، ككتب الأدب التي تروي التالف والساقط من الأخبار، أو كتب أهل الأهواء التي عرف أصحابها ببغض أبي هريرة والافتراء عليه، وليس لها أي قيمة علمية.

 

إذاً فإكثار أبي هريرة من الرواية كان مرجعه إلى طول الملازمة، وعدم الشواغل، والتفرغ للعلم والتعليم والفتيا، وتأخر الوفاة، وعدم الاشتغال بشؤون الحكم والولاية، فهل يجوز بعد ذلك أن تتخذ كثرة روايته، وحفظه للحديث مجالاً للطعن في صدقه وأمانته ؟!.

 

ولم تقف مطاعنهم عند هذا الحد، فقد افتروا عليه بأنه كان متشيعاً لبني أمية، يأخذ من معاوية الأعطيات من أجل وضع الأحاديث في ذم علي رضي الله عنه، مع أن التاريخ والروايات والأخبار كلها تشهد بأن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل البيت، يعرف قدرهم ومكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يناصبهم العداء قط، وهو الذي روى الكثير في مناقبهم وفضائلهم، وبوجه خاص فضائل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ومن أشهرها حديث الراية يوم خيبر، وروى في فضائل الحسن والحسين أكثر من حديث، وهو الذي كشف عن بطن الحسن رضي الله عنه، وقال: "أرني أُقبِّل منك حيث رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّل"، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ممن نصر عثمان يوم الدار كما نصره علي وابنه الحسن والحسين.

 

بل إن الروايات التاريخية الصحيحة تدل على أنه رضي الله عنه كانت له مواقف صلبة مع بعض الولاة من بني أمية كما في موقفه مع مروان بن الحكم -الذي كان والي المدينة آنذاك-، فقد اصطدم معه حين تدخل مروان في منع دفن الحسن عند الرسول صلى الله عليه وسلم وأغلظ له في الكلام قائلاً: "تدَخَّلُ فيما لا يعنيك"، ولما أراد أن يتخذ مروان من إكثار أبي هريرة للحديث، سبيلاً إلى إسكاته أجابه بجواب صريح قوي، حتى تمنى مروان أنه لم يكن أثاره، وكانت بينهما وحشة استمرت إلى قرب وفاة أبي هريرة، وكان مما قاله: "إني أسلمتُ وهاجرتُ اختياراً وطوعاً، وأحببتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وأنتم أهل الدار، وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم، فندم مروان على كلامه له واتقاه".

 

وروى البخاري عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال أخبرني جدي قال: "كنتُ جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومعنا مروان قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش»، وفي رواية: «غلمة سفهاء»، فقال أبو هريرة: "لو شئت أن أقول بني فلان، وبني فلان لفعلت"، وكان ذلك كما قال الحافظ في الفتح في زمن معاوية رضي الله عنه، وفي ذلك تعريض ببعض أمراء بني أمية.

 

بل روي عنه ما هو أصرح من ذلك مما يدل على شجاعته، وعدم مداهنته، فثبت عنه أنه كان يتعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، ويشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين للهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة، كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر في الفتح.


 

ولكنه مع ذلك كله كان منصرفاً إلى بث السنة وخدمة العلم، أبى أن يخوض في الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، كما أبى أن يخوضها عدد من كبار الصحابة، اجتهاداً منهم بأن هذا هو الموقف الأسلم، والأبرأ للذمة.

 

فهل هذه مواقف رجل متهم في دينه وإسلامه، متشيع لبني أمية كما يريد أن يصوره الأفاكون المبطلون، عليهم من الله ما يستحقون.

 

ومما شغب به أهل الأهواء على أبي هريرة حديث الوعائين، وهو حديث أخرجه البخاري عنه وفيه يقول: "حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم".

 

فقالوا لو صح لترتّب عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم شيئاً من الوحي عن جميع الصحابة سوى أبي هريرة وهذا لا يجوز بإجماع المسلمين، وكيف يخص أبا هريرة بعلم، دون سائر الصحابة ممن هم أرفع منه منزلة وقدراً.

 

وقد أجاب أهل العلم عن المقصود بهذا الحديث فقالوا: المراد بالوعائين نوعان من الأحاديث التي تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما النوع الأول: فهو ما يتعلق بأحاديث الأحكام والآداب والمواعظ، وهذا هو الذي بلَّغه خشية إثم الكتمان، وأما الآخر فهو ما يتعلق بالفتن والملاحم وأشراط الساعة، وما سيقع للناس، والإشارة إلى ولاة السوء، مما لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه، فهذا هو الذي آثر ألا يذكر الكثير منه حتى لا يكون فتنة للسامع، أو يسبب له التحديث به ضرراً في نفسه أو ولده أو ماله.

 

ولعل مما يؤكد ذلك رواية ابن سعد في الطبقات والتي يقول فيها: "لو حدَّثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر، فقال الحسن: "صدق والله، لو أخبرنا أن بيت الله يُهدَم ويُحرَق ما صدّقه الناس".

 

وهذا هو الذي ذكره أهل العلم في توجيه هذا الأثر، قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية: "وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به، هو الفتن والملاحم، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع، التي لو أخبر بها قبل كونها، لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق" أهـ.

 

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: "وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تَبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يُكني عن بعضه ولا يُصرِّح به، خوفاً على نفسه منهم، كقوله: "أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان"، يُشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة.. ثم قال: "ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة، لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها، لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم، وقال غيره: يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة، وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به" أهـ.

 

وأيّاً كان تأويل الحديث فليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بشيء من ذلك دون غيره من الصحابة.

 

كل ذلك نموذج لما قيل في هذا الصحابي الجليل، وهو يكاد يرجع في أصوله ومعناه إلى ما قاله الأقدمون من أهل الأهواء، بفارق واحد كما قال العلامة أحمد شاكر: "أن أولئك الأقدمين -زائغين كانوا أو ملحدين- كانوا علماء مطلعين، أكثرهم ممن أضله الله على علم، وأما هؤلاء المعاصرون فليس إلا الجهل والجرأة وترديد ألفاظ لا يفهمونها، بل هم فيها مقلدون متبعون لكل ناعق.

 

وقد تعرّض الحاكم رحمه الله في المستدرك لكل من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه، وجعلهم أصنافاً، وكأنما يرد على هؤلاء المعاصرين فقال رحمه الله: "وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار، إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم -الذي هو كفر- فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه، تمويهاً على الرعاع والسفل، أن أخباره لا تثبت بها الحجة.

 

وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف مذهبهم الذي هو ضلال، لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة.

 

أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفَّر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه: أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها.

 

أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره، تقليداً بلا حجة ولا برهان، تكلم في أبي هريرة، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفيه، إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه. وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها، أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله تعالى" أهـ.

 

ثم أخذ الحاكم يذكر بعض الأحاديث التي استشكلت من أحاديث أبي هريرة ويجيب عنها.

 

فهذه كلمة الحق في رواية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا هو ما ذهب إليه أئمة الهدى، وأعلام التقى، وكبار فقهاء الإسلام ومحدثيه، وإن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على مرأى ومسمع من كبار الصحابة والتابعين، ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم، لا يعرف أن أحداً من الصحابة بلغ مبلغه في الآخذين عنه، وكلهم يجمع على جلالته والثقة به، وينطوي على ذلك تاريخ الإسلام أربعة عشر قرناً من الزمان، وكلها شهادات حق وصدق في أحاديثه وأخباره، ليأتي اليوم من يشكك فيه، ويزعم أن المسلمين جميعاً أئمة وأصحاباً وتابعين ومحدثين كانوا مخدوعين فيه، ولم يعرفوه على حقيقته، وأنه كان يكذب ويفتري في الواقع، فأي إزراء واستخفاف بعقول هذه الأمة وعلومها ودينها أعظم من هذا، وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: من الآية 46].


 

المراجع:

- السنة ومكانتها في التشريع د. مصطفى السباعي.

- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة.

- أبو هريرة راوية الإسلام د. محمد عجاج الخطيب.

- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، الأمين الصادق الأمين.

- الحديث والمحدثون محمد أبو زهو.

- المستشرقون والحديث النبوي د. محمد بهاء الدين.

- الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة عبد الرحمن بن يحيى المَعلَمي اليماني.