الستر الجميل
ينبغي عليك أيها المسلم أن تعمل على ما يحبه الله، فتستر الناس بالستر الجميل الذي يحبه ربنا عز وجل، فتستر نفسَك من العيوب والذنوب، وتستر أهلك وأولادك وعِرْضك، وتستر بيتك وأسرتك، وتستر جارك وقريبك، وتستر عورات المسلمين وغير المسلمين، ولا تكُنْ من أولئك القنَّاصين الذين يبحثون عن فضائح الخَلْق فينشرونها بين الناس.
- التصنيفات: محاسن الأخلاق - أخلاق إسلامية -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله يُدنِي المؤمنَ، فيضع عليه كنَفَه ويسترُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أيْ ربِّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلَك، قال: سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}» [هود:18].
إنها عباراتُ (الستر الجميل) التي استوقفَتْني في هذا الحديث، أولُها: «فيضع عليه كنَفَه ويستره»، وثانيها: «سترتُها عليك في الدنيا»، فكم هو عظيمٌ ذلك الستر؟ وكم هو جميل ذلك اللباس الذي يُلبِسه ربنا عز وجل لعباده؟
قال جل في علاه: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]؛ فالنِّعم الظاهرة نعمةُ الإسلام والقرآن، والنعمة الباطنة نعمة الستر الجميل، حتى جعله لباسًا يواري عورة ابن آدم وعيبه، فقال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26].
ويأبى بعض الخَلْق إلا أن يكشفَ ذلك الستر، وينزع ذلك الرداء، فيسقط منه الحياء؛ فعند أبي داود بسند صحيح من حديث يعلى بن أمية: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبَراز بلا إزارٍ، فصعِد المنبر، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن الله عز وجل حَيِي ستِّير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر»، هكذا بعض الناس لا يهوى ستر الله عليه، فيسعى إلى خلعه ونزعه وتمزيقه، كما روى ابن وهب بسنده عن أنس قال: "أُتِي عمر بن الخطاب بسارق، فقال: والله ما سرقت قط، فقال له عمر: كذبتَ ورب عمرَ، ما أخذ الله عبدًا عند أول ذنب، فقطَعه".
نعمة عظيمة أن يسترك الله بستره الجميل، فلا تفضح؛ روى البيهقي في الشُّعب: "أن بكر بن عبد الله المزني قال لأبي تميمة الهجيمي قال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحتُ بين نعمتين: بين ذنب مستور، وثناءٍ لا يعلم به أحدٌ من هؤلاء الناس، لا والله ما بلغته ولا أنا كذلك".
لذلك ينبغي عليك أيها المسلم أن تعمل على ما يحبه الله، فتستر الناس بالستر الجميل الذي يحبه ربنا عز وجل، فتستر نفسَك من العيوب والذنوب، وتستر أهلك وأولادك وعِرْضك، وتستر بيتك وأسرتك، وتستر جارك وقريبك، وتستر عورات المسلمين وغير المسلمين، ولا تكُنْ من أولئك القنَّاصين الذين يبحثون عن فضائح الخَلْق فينشرونها بين الناس.
يروى أن مَلِكًا فيه عرج وعور، أراد أن تُرسَم صورة له تُخفِي عيوبه، فأرسل إلى الفنَّانين والرسَّامين فأبَوا ذلك، فكيف يرسُمون لوحةً له دون إظهار عيبه الظاهر (العرج والعور)؟ فقام أحد الرسَّامين وقال: "أرسمها لك"، فرسمه وبيده بندقية الصيد، وقد أغمض عينه العوراء، وثنَى قدمه العرجاء، وكأنه مستندٌ لاصطياد هدفه.. هكذا ينبغي أن يكون المسلمُ.
ويروي لنا أهل السير: "أن جَرِير بن عبد الله البَجَلي كان عند الفاروق عمر في خلافته، ومعه جماعة من الناس، وهم ينتظرون الصلاة، فخرج من أحد القوم ريحٌ، وخاف عمر أن يحمل الخجلُ صاحبَ الريح على الدخول في الصلاة، فقال: عزمت على صاحب الريح أن يتوضَّأ فبادر جرير وقال: مُرْنا جميعًا أن نتوضأ، فسُرِّي عمر، وقال لجرير: رحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام".
فالناس صنفانِ؛ منهم مَن يستر العيب كجرير، ومنهم مَن يبحث عن الفضائح، فيكشف أستار الناس وعوراتهم، كما روى البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}» [الأحزاب:69].
إنها من أعظم النِّعم أن تنالَ ستر الله عليك..
فماذا لو كشَف سترَه عنك؟
ماذا لو كانت للذنوب رائحةٌ؟
هل يستطيع بعضنا أن يجالس بعضًا؟
ماذا لو كُتِبت ذنوبنا على جباهِنا فاطَّلع عليها الناس؟
ماذا لو كتبت على جدران بيوتاتِنا الذنوب التي يقترفُها هذا البيت أو ذاك؟
والله لولا ستر الله علينا ما جالَسَنا أحدٌ.
كم من أسرةٍ ستحطم لو كُشِف ستر الله؟
كم من زوجة ستُطلَّق لو كُشِف ستر الله؟
كم من صاحبٍ سيفارق صاحبه لو كُشِف ستر الله؟
كم من خليلٍ سيترك خليله لو كُشِف ستر الله؟
كم من أرحام ستقطع لو كُشِف ستر الله؟
كم من عَلاقة إنسانية ستمزَّق لو كُشِف ستر الله؟
ذكَر ابن قدامة في كتابه التوَّابين قصةً في بني إسرائيل: أن موسى عليه السلام خرج يومًا يستسقي، فلم يرَ في السماء قزعة -أي سحابة- واشتد الحرُّ، فقال موسى: "يا رب، اللهم إنا نسألك الغيث فاسقِنا، فقال الله جل وعلا: يا موسى، إن فيكم عبدًا يُبارِزُني بالذنوب أربعين عامًا، فصِحْ في القوم ونادِ إلى العباد: الذي بارز ربه بالذنوب والمعاصي أربعين عامًا أن اخرُج، فقال موسى: يا رب، القوم كثير، والصوت ضعيف، فكيف يبلغهم النداء؟! فقال الله: يا موسى، قل أنتَ، وعلينا البلاغ، فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصي -الذي علم أنه المقصودُ بالخطاب، المرقوم في الكتاب أنه يُنادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرِف وهتك ستره، وانفضحت سريرته وكشفت خبيئته-.
فما كان منه إلا أن أطرق برأسِه وأدخل رأسَه في جيب درعه أو قميصه، وقال: يا رب، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، فما لبث موسى ومَن معه إلا أن أظَلَّهم الغيمُ، وانفتحت السماء بمطر كأفواهِ القِرَب، فقال موسى: يا رب، سقيتَنا وأغثتَنا ولم يخرج منا أحدٌ، فقال الله: يا موسى، إن مَن منعتُكم السقيا به تاب وسألني وأعطيته، وسقيتكم بعده، فقال موسى: يا رب، أرني ذلك الرجل، فقال الله جل وعلا: يا موسى، سترتُه أربعين عامًا وهو يعصيني، أفأفضحه وقد تاب إليَّ وبين يدي؟".
قال الإمام ابن القيم:
"للعبد سترانِ: ستر بينه وبين ربه، وآخر بينه وبين الخَلْق، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله ستره بين الخَلْق".
اللهم استُرْنا ولا تفضحنا، وعافِنا لا تبتلِنا، ونجِّنا لا تهلكنا، واغفر لنا لا تؤاخذنا..، والله من وراء القصد.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
د. حسام الدين السامرائي