مرحباً بشهر رمضان، شهر البر والتقوى
عبد الله بن محمد الطيار
فرمضان محطة ينبغي أن نتوقف فيها كثيراً لنتأمل حالنا وما نحن فيه من أمن وطمأنينة، ورغد عيش، وحياة كريمة، ونتذكر نعم الله علينا حيث حُرم أقوام نعمة بلوغ رمضان، فكم من أشخاص صاموا في العام الماضي هم في هذا العام تحت أجداث الثرى مرتهنون بأعمالهم؟ وكم من أناس أصحاء في العام الماضي وهم في هذا العام لا يستطيعون الصيام لأمراض حلَّت بهم؟ وكم من مسلم كان يتمنى بلوغه فوافاه أجله قبل أن يبلغه؟ فهو شهر محبب إلى النفوس المؤمنة، والقلوب الواعية المخلصة.
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
الخطبة الأولى:
أقبل علينا رمضان شهر الخيرات والبركات وموسم التنافس في الطاعات، الحمد لله الذي امتن علينا ببلوغ شهر رمضان، وأفاض علينا فيه بالكثير من الفضل والامتنان، نحمده سبحانه حمداً يليق بعظمته وقدرته، وعظيم فضله ومنته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي امتن على أمة الإسلام بصيام رمضان وقيامه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام وأطاع الرحمن، الذي كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان بقوله: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله»، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم مبعث الأنام.
أما بعد:
أيها المؤمنون والمؤمنات أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى: {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} [النساء: 131].
عباد الله:
من فضل الله تعالى علينا أن بلغنا هذا الشهر الكريم المبارك: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، ونحن نتقلب في نعمة الأمن بالبلدان، والمعافاة في الأهل والولدان، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر به أصحابه كما جاء في الحديث الشريف: «أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم» [رواه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم55].
ها هو شهر رمضان قد حضر بين أيدينا محملاً بأصناف الطاعات والقربات، وفاتحاً لنا أيامه لتنافس المؤمنين والمؤمنات، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» [رواه أحمد والبزار والبيهقي، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب ج1 رقم586]، فلك الحمد يا ربنا كثيرا، ولك الشكر كثيراً، فأنت أحق من عبد، وأحق من شكر، وأحق من رُكع له وسُجد.
عباد الله:
قد كان سلف الأمة رضوان الله عليهم يتباشرون بقدومه، ويهنأ بعضهم بعضاً بقولهم: "اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن"، وذلك لما يعلمون من فضل رمضان، وسعة فضل الله عليهم فيه، وما ينزله الله تعالى على عباده من الرحمات، ويفيضه عليهم من النفحات، ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات، ويجنبهم فيه من الوقوع في الزلات والموبقات، حيث يفتح لهم أبواب الجنان، ويغلق عنهم أبواب النيران، ويُصفِّدُ فيه مردة الجان، فهو للأمة ربيعها، وللعبادات موسمها، وللخيرات سوقها، فلا شهر أفضل للمؤمن منه، ولا عمل يفضل عما فيه، فهو بحق غنيمة المؤمنين، وموسم الطاعة للمتقين، والسوق الرائجة للمتنافسين، يرتقي فيه أقوام إلى أعالي الدرجات، ويُسِفُّ فيه أقوام استعبدتهم الأهواء والشهوات.
عباد الله:
ها نحن نستقبل شهراً كريماً، وموسماً عظيماً، خصَّه الله بالتشريف والتكريم، ?أنزل فيه القرآن العظيم، وفرض صيامه على المسلمين، وسن قيامه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو شهر التقوى، وشهر القرآن، وشهر الإفطار والإطعام، وشهر الصدقات، وشهر إجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وإجزال الهبات، وكثرة النفحات.
وهو شهر التوبة، وشهر الأوبة، وشهر تسكب فيه العبرات، وتكثر فيه الأنات والزفرات، وتقشعر فيه الجلود لرب الأرض والسماوات، وهو شهر تكفير السيئات، والصفح عن الزلات، وإقالة العثرات، شهر فضَّل الله أوقاته على سائر الأوقات، وخصَّه بأسمى المزايا والصفات.
فرمضان محطة ينبغي أن نتوقف فيها كثيراً لنتأمل حالنا وما نحن فيه من أمن وطمأنينة، ورغد عيش، وحياة كريمة، ونتذكر نعم الله علينا حيث حُرم أقوام نعمة بلوغ رمضان، فكم من أشخاص صاموا في العام الماضي هم في هذا العام تحت أجداث الثرى مرتهنون بأعمالهم؟ وكم من أناس أصحاء في العام الماضي وهم في هذا العام لا يستطيعون الصيام لأمراض حلَّت بهم؟ وكم من مسلم كان يتمنى بلوغه فوافاه أجله قبل أن يبلغه؟ فهو شهر محبب إلى النفوس المؤمنة، والقلوب الواعية المخلصة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النيران، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» [رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (ج1 رقم 1960)].
عباد الله:
إننا بحاجة إلى وقفة مع أنفسنا كي نبذل ما في وسعنا من أجل تحصيل أعمال تكون لنا زاداً في الآخرة، قبل أن يمضي رمضان ونتحسر على ما فرطنا فيه في جنب الله، وعلى المسلمين جميعاً أن يحرصوا على استغلال هذا الشهر الكريم، فقد حوى الكثير من الأعمال الصالحة التي لم تجمع في شهر سواه، من صامه وقامه إيماناً واحتساباً حصل على العطاء الجزيل من الرب الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقال أيضاً: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه]، والعمل الصالح فيه يضاعف، وهذا من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين.
فأين المشمرون؟ وأين المتنافسون؟ وأين المتسابقون؟ كي يغنموا هذا الشهر ليكون لهم زاداً مباركاً يقربهم إلى ربهم، ويرفع به درجاتهم، ويكون سداً منيعاً لهم من النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}) [البقرة: 183، 184].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم الحليم، ذي الفضل العميم، والعطاء الواسع الجزيل، والصلاة والسلام على نبي الأمة الكريم محمد بن عبد الله الذي أرسله الله رحمه للعالمين صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فاعلموا أيها المؤمنون: أن أيام العمر معدودة، وساعاتها محدودة، فمن قدم الزاد لنفسه وجد الخير الكثير عند ربه، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى})[الليل: 5 - 7].
وسوف يتحسر العباد يوم الحسرة والتناد على ما فرطوا في جنب الله، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
وتقول حين ترى صحائف الأعمال فارغة من الصالحات: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].
عباد الله:
اعلموا أن رمضان فيه أبواب للخير كثيرة تحتاج منا إلى الحرص عليها، والمبادرة إلى كسبها، والتنافس في تحصيلها، ففيه الصيام، وفيه القيام، وفيه البذل، وفيه إفطار الصائمين، وفيه تلاوة القرآن العظيم، وفيه عتق الرقاب من النار، فعلى المسلم أن يبذل جهده، ويكثر من سعيه من أجل تحصيل الثمرة، ولا يتكاسل قبل فوات الأوان، ويمر شهر رمضان فيندم على تفريطه، ويتحسر على إضاعته.
عباد الله:
لقد دخل رمضان ليربي النفوس على التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فالصيام يربي المسلم على الخوف من الله ومراقبته، والعمل على إرضائه، وبذل الجهد من أجل تحصيل جنته.
فحينما يقول المؤذن (الله أكبر) فجراً من رمضان فمعناها (الله أكبر من كل شيء)، وهنا يمسك المسلم عن الطعام والشراب وعن كل شيء يخدش صيامه، فليست المسألة مسألة ترك الشهوات فقط، بل كل ما يشوش العقل أو يلوث الروح، أو يؤثر على العواطف، كل شيء ينبغي أن يبتعد عنه الصائم كي يحفظ صيامه من النقص، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم حين قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [رواه البخاري].
وإذا قال المؤذن: الله أكبر عند غروب الشمس يتذكر المسلم عظمة الخالق الذي صام طاعة له، وهنا يفرح بإتمام يوم من صيامه، ويفرح بطاعة ربه، ويفرح بما أعده الله له، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» [متفق عليه].
عباد الله:
إن في الصيام استعلاء على الشهوات، وترفعاً عن سفاسف الأمور، ووصولاً إلى مدارج التقوى، في الصيام تمسك الجوارح عن كل مؤثر على الصوم، يصوم البصر عن نظر الحرام، ويصوم اللسان عن قول الزور، ويصوم السمع عن سماع الأغاني والألحان، ويصوم البطن عن أكل الحرام، ويصوم الفرج عن الوقوع في الزنا والآثام، وتصوم الجوارح كلها عما يصدها عن عبادة الرحيم الرحمن.
فالمؤمن يتقلب بين فضائل ربه، ويعلم قيمتها وثمنها، ويبادر إلى شكرها.
أيها الصائمون والصائمات:
هنيئاً لكم أن بلغكم الله هذا الشهر المبارك، وهنيئاً لكم ما بشركم به نبيكم صلى الله عليه وسلم لمن يجتهد فيه بالأعمال الصالحة، قال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه ابن خزيمة، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب ج1 رقم 590).
فاللهم إنا نسألك باسمك العظيم، الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، أن تمن علينا بالعون فيه على طاعتك، وأن توفقنا فيه إلى مرضاتك، وأن تجعلنا ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، وأن تبارك لنا فيه يا أكرم الأكرمين، وأن تجعله حجة لنا بين يديك يوم نلقاك، وأن تعتق فيه رقابنا من النار ووالدينا وجميع المسلمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].