صيغة (استفعل) في القرآن

صيغة (استفعل) من صيغ الأفعال المزيدة، حيث زيد على صيغة (فعل) الألف، والسين، والتاء، والأصل في هذه الصيغة إنما هو طلب الشيء وتحصيله بالطلب.

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

صيغة (استفعل) من صيغ الأفعال المزيدة، حيث زيد على صيغة (فعل) الألف، والسين، والتاء، والأصل في هذه الصيغة إنما هو طلب الشيء وتحصيله بالطلب، كقولك: "استغفرت الله"، أَي: طلبت مغفرته؛ وقولك: استكتبت فلانًا كلامًا: إذا طلبت منه كتابته؛ وقولك: استعن بالله، أي: اطلب العون والإعانة والمعونة منه سبحانه.

والفعل من هذه الصيغة يكون متعديًا، كما في الأمثلة المتقدمة، وقد يأتي لازمًا، كقولك: "استحجر الطين"، أَي: صار حجرًا.

المعاني التي تأتي عليها صيغة (استفعل).

تقدم أن الأصل في صيغة (استفعل) أن تدل على الطلب، ثم تأتي لمعانٍ أُخر:

فتأتي بمعنى التحول والصيرورة، نحو قولك: استحصن المُهْرُ: أي: صار حصانًا، واستنوق الجمل: أي: صار كالناقة في ذُلِّها.

وتأتي بمعنى (أفعَلَ)، كأجاب واستجاب، من ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَ‌بُّهُمْ} [ آل عمران:195]، فـ (استجاب) هنا بمعنى: أجاب. و(استفعل) بمعنى (أفعل) يتعدى بنفسه وبحرف الجر، إلا أنه لم يرد في القرآن إلا معدى بحرف الجر، كقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76].

وتأتي صيغة (استفعل) مطاوع صيغة (أفعل)، كأحكمته فاستحكم، وأقمته فاستقام.

وتأتي بمعنى اعتقاد صفة الشيء، كاستحسنتُ كذا واستصوبته، أي: اعتقدتُ حسنه وصوابه، واستسهلت هذا الأمر: اعتقدته سهلًا، أو وجدته سهلًا، واستعظمته، أي: اعتقدته عظيمًا.

وتأتي دالة على اختصار حكاية الشيء، كاسترجع، إذا قال: {إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَ‌اجِعُونَ} [البقرة:156].

وتأتي بمعنى (الاتخاذ)، كاستعبد عبدًا، واستأجر أَجيرًا.

وتأتي بمعنى (الوجود)، كاستعظمته: إِذا وجدته عظيمًا؛ واستجدته: إذا وجدته جيدًا.

وتأتي بمعنى (افتعل)، كاستحصد الزَّرْع: إذا احتصده.

وتأتي بمعنى الفعل المجرد (فعل)، كاستقر، بمعنى: قرَّ؛ واستعلى قرنه، بمعنى: علا؛ واستعجب: بمعنى: عجب.

وتأتي صيغة (استفعل) بمعنى (تفعَّل)، كاستكبر، بمعنى: تكبر.

وتأتي دالة على قوة وصف ما، كاسْتُهْتِرَ واستكبر، أي: قوي هِتْرُه، وكِبره.

وتأتي دالة على المصادفة، كاستكرمتُ زيدًا، أو استبخلته: أي: صادفته كريمًا، أو بخيلًا.

ثم إن باقي الصيغ تدل على قوة المعنى، زيادة على أصله، فمثلًا: اعشوشب المكان يدل على زيادة عشبه أكثر من عَشِب، واخشوشن يدل على قوة الخشونة أكثر من خَشُن، واحمارَّ يدل على قوة اللون، أكثر من حَمُر واحمرَّ، وهكذا.

صيغة (استفعل) في القرآن:

وردت صيغة (استفعل) في القرآن الكريم أكثر ما وردت على بابها الذي هو بمعنى الطلب، من ذلك قوله عز وجل: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالاستعانة هنا هي طلب المعونة من الله سبحانه؛ ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ‌ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:45]، فـ(استفعل) في الآية جاءت على بابها الذي بمعنى الطلب.

وعلى هذا النحو أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِ‌يبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [ البقرة:186]، أي: فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني، فيكون (استفعل)، قد جاءت بمعنى الطلب.

ومنه أيضًا قوله سبحانه:  {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْ‌تَ} [هود:112]، فـ(استفعل) هنا للطلب، أي: اطلب الإقامة على الدين والحق الذي جاء به. وعلى حسب ما تقدم، جاء أيضًا قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ} [ البقرة:60]، وقوله: {وَاسْتَغْفِرُ‌وا اللَّـهَ} [ البقرة:199]، وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّ‌جَالِكُمْ} [ البقرة:282]، وقوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [ التوبة:86]، وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَ‌ةِ} [النحل:107]، وقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ‌ لِذَنبِكَ} [غافر:55].

 

ووردت صيغة (استفعل) في القرآن الكريم بمعنى (أفعل)، قال أبو حيان: "وهو كثير في القرآن"، من ذلك قوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَ‌بُّهُمْ} [ آل عمران:195]، أي: أجاب دعاءهم؛ ومن ذلك قوله عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارً‌ا} [البقرة:17]، فـ {اسْتَوْقَدَ}، هنا بمعنى (أوقد)، حكى أبو زيد: أوقد واستوقد بمعنى؛ وعلى وَفْق هذا جاء قوله عز وجل: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، فقوله: {اسْتَزَلَّهُمُ} بمعنى: أزلهم الشيطان، فيدل على حصول الزلل، ويكون (استزل) و(أزل) بمعنى واحد، كقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36]، على أحد تأويلاته.

ومن هذا الباب أيضًا قوله عز من قائل: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْ‌ضِ حَيْرَ‌انَ} [الأنعام:71]، فـ {اسْتَهْوَتْهُ} هنا من الهويِّ، أي: ألقته في هُوَة، وجعلته يتقبل ما تريد، واستولت عليه، دون أن يكون لديه أي دليل، أو حجة على صحة ما تدعوه إليه؛ بأن صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء.

ومنه أيضًا قوله سبحانه: {لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]، فـ (استنقذ) استفعل بمعنى (أفعل) أي: أنقذ. ويقال مثل ذلك في قوله سبحانه: {سَحَرُ‌وا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْ‌هَبُوهُمْ} [الأعراف:116]، أي: أرهبوهم، وقوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَ‌كُمْ فِيهَا} [هود:61]، أي: أعمركم فيها، بمعنى أسكنكم فيها، وقوله عز وجل: {فَاسْتَبْشِرُ‌وا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} [التوبة:111]، أي: أبشروا.

 

وجاءت صيغة (استفعل) في القرآن بمعنى الفعل المجرد، من ذلك قوله سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْ‌تُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ‌ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، فـ {اسْتَيْسَرَ‌} هنا بمعنى الفعل المجرد: يَسُرَ؛ ونحو هذا قوله تعالى: {فَكَفَرُ‌وا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّـهُ} [التغابن:6]، فـ(اسْتَغْنَى) بمعنى الفعل المجرد: غني، وغناه تعالى أزلي، فالمعنى: أنه تعالى غني عنهم؛ إذ أهلكهم؛ ومن هذا القبيل أيضًا قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [ يوسف:80]، فـ (استيأس) هنا بمعنى الفعل المجرد (يئس) فهما بمعنى واحد؛ ومنه أيضًا قوله سبحانه: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [ النحل:84]، فـ (استفعل) هنا بمعنى الفعل المجرد، وهو عتب، أي: هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنـزلة من لا يؤهل للعتب؛ ونحوه قوله عز وجل: {وَلَا يَسْتَحْسِرُ‌ونَ} [الأنبياء:19]، فـ (استفعل) هنا بمعنى (فعل)، يقال: حسر واستحسر: إذا تعب وأعيى. ومثل هذا يقال في قوله سبحانه: {وَإِذَا رَ‌أَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُ‌ونَ} [الصافات:14]، أي: يسخرون. وقوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [ المجادلة:19]، أي: حاذ عليهم الشيطان، وصرَّفهم كيف يشاء.

 

وجاءت صيغة (استفعل) في القرآن بمعنى (تفعَّل) في مواضع، من ذلك قوله عز وجل: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَ‌سُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْ‌تُمْ} [البقرة:87]، فـ {اسْتَكْبَرْ‌تُمْ} هنا بمعنى: تكبرتم؛ ونحوه أيضًا قوله عز من قائل: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْ‌تُمْ} [الأحقاف:10]، أي: تكبرتم. وقل مثل ذلك في قوله سبحانه: {وَاسْتَكْبَرَ‌ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْ‌ضِ} [القصص:39]، وقوله: {بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْ‌تَ} [الزمر:59]، وقوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ‌ وَاسْتَكْبَرَ‌} [المدثر:23].

 

وبالمقابل، فإن صيغة (تفعَّل) جاءت في القرآن الكريم بمعنى صيغة (استفعل) التي تفيد الطلب، وذلك في قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ‌ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]، أي: استعجل، واستأخر؛ ونحو هذا قوله سبحانه: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، أي: لا تستبدلوا الخبيث بالطيب؛ وقوله سبحانه: {فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح.

 

وجاءت صيغة (استفعل) في القرآن بمعنى (افتعل)، من ذلك قوله سبحانه: {وَلَقَدْ رَ‌اوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32]، فـ (استعصم) هنا بمعنى: اعتصم، قال أبو حيان: "وهذا أجود من جَعْل (استفعل) فيه للطلب؛ لأن (اعتصم) يدل على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدل على حصولها".

 

وجاءت صيغة (استفعل) في القرآن الكريم بمعنى وجود الشيء، من ذلك قوله عز وجل: {وَأَوْرَ‌ثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِ‌قَ الْأَرْ‌ضِ وَمَغَارِ‌بَهَا} [الأعراف:137]، فـ {يُسْتَضْعَفُونَ} أي: وجدوهم ذا ضعف.

 

وبما تقدم يَضِحُ أن صيغة (استفعل) وردت في القرآن في مواضع كثيرة على بابها، الذي هو بمعنى طلب فعل الشيء، ووردت أيضًا على صيغة (أفعل) وصيغة الفعل المجرد في مواضع عديدة، ووردت على نحو أقل على صيغة (تفعل)، و(افتعل)، وبمعنى وجود الشيء، ولم تأت على معنى اختصار حكاية الشيء، ولا معنى (الاتخاذ).