إخلاص الإخلاص

الإخلاص كالقيد للعمل يحفظه من الضياع، وكالصندوق يحمي به المسلم عمله من أن يسرقه وسوسة شيطان أو ثناء إنسان. والمسلم إذا أخلص في عمل، يجب عليه أيضًا أن يحافظ على هذا الإخلاص بإخلاص آخر يصاحبه ويستمر معه فيخلّصه من شوائب الرياء.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

الحمد لله، وصلى الله وسلَّم على رسول الله، أما بعد:

ذكر الذهبي في (السيَر) عن أبي حاتم الرازي قال: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: "كنا سريّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنا العدو، فلما التقى الصفان؛ خرج رجل من العدو، فدعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل من المسلمين فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل من المسلمين، فطارده ساعةً، فطعنه المسلم فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرتُ فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمّه، فأخذتُ بطرف كمّه فمددته، فإذا هو هو. فقال: وأنتَ يا أبا عمرو ممن يشنّع علينا!". (سير أعلام النبلاء:8/ 394، وتاريخ بغداد:10/ 167).


لا أجد عنوانًا يناسب هذه القصة إلا (إخلاص الإخلاص)، فهو من المعالم الواضحة فيها وفي حياة السلف عمومًا، والتي ينبغي الاسترشاد بها والسير على طريقها.


فتأمل في القصة السابقة إخلاص هذا الإمام رحمه الله في هذا العمل الصالح، المتمثل في إخفاء نفسه عن أنظار الناس، في موقف يُتشوّف فيه لإظهار النفس، وتأمل إخلاصه في هذا الإخلاص، حيث غضب على مَن كشفه وأظهره للناس.


سأتكلم بإذن الله عن هذا الموضوع من خلال نقاط غير مرتبة، تأملتها؛ علَّ الله أن ينفع بها راقمها وقارئها:

١- إخلاص العمل لله سبحانه فيه مشقة وعسر، إلا مَن يسَّره الله تعالى عليه؛ لأن الإخلاص عمل قلبي خفي، لا يطّلع عليه البشر، وليس للإنسان فيه نصيب، ولأنه يحتاج إلى عناية مستمرة، فالنية تتقلب، وكذلك ارتباط الإخلاص بكل عمل يعمله المسلم، صغيرًا كان أم كبيرًا.

قال يوسف بن الحسين: "أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهدُ في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر" (مدارج السالكين:2/ 96)، ويقول سفيان الثوري: "ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تتقلب عليّ" (جامع العلوم والحكم:12)، ويقول يوسف بن أسباط: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد" (جامع العلوم والحكم:29).

 

٢- إخلاص الإخلاص قدر زائد على الإخلاص، فهو كالقيد لهذا العمل يحفظه من الضياع، وكالصندوق يحمي به المسلم عمله من أن يسرقه وسوسة شيطان أو ثناء إنسان. فالمسلم إذا أخلص في عمل، يجب عليه أيضًا أن يحافظ على هذا الإخلاص بإخلاص آخر يصاحبه ويستمر معه فيخلّصه من شوائب الرياء.

 

٣- من مظاهر عدم الإخلاص في الإخلاص إظهار النحول والتعب؛ ليدل به على صومه، بل والتحدث عن مشقة العبادات، فتجده مثلًا يقول: لقد لقينا من حجنا أو صومنا هذا نصبًا، وربما ذم نفسه أمام الملأ ليزيّن نفسه بذلك.

يقول مطرف بن الشخّير: "كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ، كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه" (شرح حديث ما ذئبان جائعان:46).

ومن تلك المظاهر: العُجْب بإخلاص العمل، بل تعدَّى الأمر ببعض الأفراد إلى نشر ما يقومون به من أعمال دعوية وخيرية على وسائل التواصل الاجتماعي، ونقش هذه الصور على توبيكاتهم وحساباتهم الشخصية، وكأنهم ينبهون الناس على فضيلتهم ومزيتهم، بل ترى بعض هؤلاء عندما تدخل إلى بيته كيف صفَّ الدروع والشهادات، وربما علق القصائد التي تشيد بجهوده وإنجازاته، وغيرها كثير من هذه المظاهر التي ينفر منها أهل الحق.  


4- كما تجتهد في أول العمل بمحاولتك الإخلاص فيه فاجتهد أيضًا بعد العمل إذا أخلصت فيه بكف صوارف الإخلاص من رياء وحب مدح وغيره، فالبعض يظن أن الإخلاص يكون في أول العمل فقط.

جاء عن سليمان الهاشمي أنه قال: "ربما أُحدِّث بحديث واحد ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيّرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات" (السير:10/ 625).


5- جاء ما يؤيد هذا المعنى في البخاري ومسلم مرفوعًا في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، حيث سألوا الله بصالح أعمالهم، والتي يجمع بينها الإخلاص، حيث إنهم لم يذكروا هذه الأعمال الخفية لأحد إلا في هذا الموضع الذي احتاجوا فيه لذكرها، والتوسل بها إلى الله؛ ليفرج عنهم كربتهم، ولذلك استجاب الله لهم دعاءهم؛ لعلمه بصدق إخلاصهم.

 

6- إخلاص الإخلاص كما يكون في الفعل يكون في الترك أيضًا، ففعل الطاعة وترك المعصية كلاهما يحتاج إلى إخلاص الإخلاص فيهما، فكما تجتهد في إخلاصك في الطاعة؛ فاجتهد أيضًا في إخلاصك في ترك المعصية، فكم إنسان تحدّث عن صبره في مقاومة معصية من المعاصي، وكيف تركها مع توفُّر الدواعي لها، فهذا مما ينافي إخلاصه في ترك المعصية.

 

7- استواء كتم الحسنات بكتم السيئات من علامات إخلاص الإخلاص، فإذا كان المسلم يتضايق ويتململ من انتشار حسنته بين الناس مثل تضايُقه من انتشار سيئته بينهم فهو على خير.

جاء عن ابن حازم أنه قال: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك" (السير:6/ 100).


8- ولا يدخل في هذا الموضوع مَن ترك العمل لأجل الناس ظنًّا منه أنه من الإخلاص، قال الفضيل: "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما" (السير:8/ 42).

 

9- هذا الموضوع قد يمتد معك حتى بعد موتك، قال بشر بن الحارث: "قد يكون الرجل مرائيًا بعد موته، يحب أن يكثر الخَلْق في جنازته" (السير:10/ 473).

فيعمل الأعمال الصالحة، وربما يخلص فيها، لكنه يتمنى أن يذكره الناس بعد موته بتلك الأعمال التي قام بها في حياته.  

 

10- هنا مسألة مهمة ألا وهي: أنه إذا كان العمل لله وشاركه الرياء؟

إذا شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه، أما إذا كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرًا ودفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فيبطل إذا كان العمل يرتبط أوله بآخره مثل الصلاة والصيام، وأما ما لا يرتبط ببعضه مثل القراءة والذكر فإنه يبطل بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية. (جامع العلوم والحكم:37).

ونختم هذا الموضوع ببستان جميل من قصص السلف الصالح في هذا الباب لعلها تُنبه غافلًا أو تذكِّر ناسيًا، فمن هذه القصص:

تقول سُرِّيِّة للربيع بن خثيم: "إنه كان يدخل على الربيع الداخل وفي حِجره المصحف فيغطيه" (السير:4/ 260).

وجاء عن الأعمش أنه قال: "كان عبدالرحمن بن أبي ليلى يصلي، فإذا دخل الداخل نام على فراشه" (السير:4/ 264).

وعن حماد بن زيد قال: "كان أيوب في مجلسه، فجاءته عَبرة، فجعل يمتخط، ويقول: ما أشد الزكام!" (السير:6/ 20)، وعن ابن واسع أنه قال: "إن الرجل ليبكي عشرين سنة، وامرأته معه لا تعلم" (السير:6/ 122).

وجاء عن عاصم أنه قال: "كان أبو وائل إذا صلى في بيته ينشج نشيجًا، ولو جُعلت له الدنيا على أن يفعله وأحدٌ يراه ما فعله" (السير:4/ 165)، وعن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال: "إذا كان المرء يحدّث في مجلس، فأعجبه الحديث؛ فليمسك، وإذا كان ساكتًا، فأعجبه السكوت؛ فليتحدث" (السير:6/ 10).

وجاء عن سهل بن منصور أنه قال: "كان بِشر يصلي، فيطوّل ورَجُل وراءه ينظر، ففطن له، فلما انصرف قال: لا يعجبك ما رأيتَ مني، فإن إبليس قد عَبَدَ الله دهرًا مع الملائكة" (السير:8/ 361).

وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. (صفة الصفوة:3/ 492)، وقال عون بن عبدالله في نصيحة للمتصدقين والمنفقين: "إذا أعطيت المسكين، فقال لك: بارك الله فيك؛ فقل أنت: بارك الله فيك، حتى تخلص لك صدقتك" (حلية الأولياء:4/ 253).

وجاء عن مقدم برنامج (صفحات من حياتي) الأخ فهد السنيدي أنه طلب لقاء من الشيخ محمد بن سبيّل رحمه الله؛ ليتكلم عن سيرته فقال: "يا فهد، سيرتنا وأعمالنا الظاهرة هذه يعرفها الناس، وأما أعمالي الخفية لا يمكنني أن أتحدث عنها".

وهذا غيض من فيض. نسأل الله تعالى الإخلاص في حركاتنا وسكناتنا، وأن يعاملنا بعفوه، ولا يَكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

وصلى والله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

 

مرعيد عبد الله الشمري.