(29) صفات العالِم الرباني 5: الصبر

راغب السرجاني صلاح الدين سلطان

تتناول هذه الحلقة صور رائدة من صبر العلماء على طلب العلم، وخاصة الصبر على المباحات فضلًا عن الصبر على المحرمات، فلا يوجد عالم إلا وصبر على الكثير من المباحات التي أحلها الله تعالى له كالنوم والأكل وغير ذلك... وهنا ملخص لما جاء في هذه الحلقة

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

بسم الله الرحمن الرحيم

د. راغب:

هناك الكثير من الأمثلة عن صبر العلماء على المعاناة الطويلة، بل وصبر العلماء أحيانًا على ترك المباح للوصول إلى ما يريدون من تحقيق العلم.

 

د. صلاح:

على العلماء وشباب العلماء الذين يريدون التهيؤ للعلم أن يصبروا ليس عن الحرام فقط، ﻷن الصبر عن المحرمات هو أمر أساسي ومفروغ منه، لكن الفتن الكثيرة الموجودة اﻵن في المباحات هي التي تُعطِّل ذوي الإرادات أن يكونوا من العلماء الربانيين.

فمثلًا الشاب الذي نشأ في بيئة يفرِض الناس فيها أنه لكي يخوض تجربة الزواج فهو يحتاج إلى أموال كثيرة، وبالتالي يضطر أن يترك العلم والكُتب ليذهب للعمل في الليل والنهار لكي يُحصَّل هذه اﻷشياء، وكذلك من يحب بأن يحصل على ما يشتهيه من أطعمة وكساء ومنازل، فيتعجَّل الحصول على المال ليعيش كما يهوى.

وهنا نقول له لا يجب أن تتعجل المال أو رغد العيش، بل عليك أن تُعجِّل القراءة بالليل والنهار وأن تبحث وتفكر وتتدبر وتبتكر وتخترع، وتصبر  على طلب العلم، لكن إذا انسقت وراء كل الحلال فلن تجد وقتًا للعلم!

 

د. راغب:

كان أسد بن الفرات رحمه الله يعيش في تونس فتركها وترك أهله للبحث عن العلم، فذهب إلى المدينة المنورة ليتعلم من اﻹمام مالك، ثم انطلق إلى العراق ليتلقى العلم من تلميذ أبي حنيفة الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، فيقول: "كنت أجلس مع العراقيين في الصباح وأذهب إليه في المساء بعد أن ينتهي من دروسه بعد العشاء، فأجلس معه في الطابق الأسفل من منزله فيعلمني ما شاء الله له أن يعلمني ثم يغلب علي النعاس فيصعد هو إلى الطابق الأعلى وينزل ومعه طبق من الماء، فكلما نعست رشَّ على وجهي الماء".

حتى أخذ عِلم محمد بن الحسن الذي هو علم أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مصر وتعلَّم على يد اﻹمام سحنون ثم عاد إلى تونس، وكان هو الذي نشر المذهب المالكي ليس فقط في تونس بل في الشمال الأفريقي كله ومن ثم في اﻷندلس بعد ذلك.

وهذه أمثلة عن ناس لا رغبة لديها إلا في تحصيل العلم لله عزَّ وجلَّ.

 

د. صلاح:

ولذلك عندما يكون المرء واضح وصادق مع الله سبحانه وتعالى يُوفَّق توفيقًا كبيرًا، وأي من شباب العلماء النبغاء عندما يبدأ في العلم ستأتيه فتنتان، فتنة الإغواء وفتنة الإيذاء، والصبر هنا يجب أن يكون مزدوجًا ويكون صبرًا جميلًا، ومن كانت لديه الرؤيا واضحة بأن يكون عاِلمًا ربانيًا فيبحث هنا عمن يخدمه في هذه المسألة، فإن تزوَّج يتزوَّج التي تعينه وتساعده على استمرار طلب العلم.

وإذا أردت أن يكون معك رواحل فلا بد أن يتجاوزوا مرحلة الصبر عن الحرام إلى الصبر عن المباح.

هذه اﻷمة منكوبة بشكل غير عادي،  وعلى إخواننا الذين يريدون أن يتأهلوا ليكونوا علماء ربانيين، أنهم يكونوا على علم  بدورهم في الحياة وأن هدفهم هو إسعاد العالم وتغيير العالَم والأمة، وأن تكون لديهم هذه الرؤية.

فيترك طالب العلم المباح، من النوم فيصير النوم غمضًا ويصير الطعام قوتًا ويصير الكلام ندرًا، فيقلل من الكلام لحساب طلب العلم والذّكر والقرآن، فإن ترك نفسه يأكل ما يريد فينتهي به الأمر إلى النوم.

 

د. راغب:

كان ابن عقيل يفضل الأكل المسفوف حتى ينتهي من الأكل سريعًا، وهو الذي كتب كتاب الفنون في 800 مجلد وهو أكبر موسوعة ألفها إنسان واحد في تاريخ البشرية كلها.

قد يرى البعض أن هذا تضييقًا لأبواب واسعة، لكن هذا عالِم والعالِم يقود الأمة وما يُباح لعموم اﻷمة يَصعب على العالِم وإلا ضاعت اﻷمة.

وحتى غير المسلمين الذين يريدون أن يكونوا من العلماء يجب أن يبذلوا مثل هذا الجهد بل وأشد في كثير من الأحيان، مثل أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي بعد 101 محاولة  يبذل فيها الجهد والتجارب.

فكل هؤلاء العلماء لديهم قضية علمية، والتاريخ والواقع يحمل أن من يريد أن يصل إلى العلم لا بد له من الصبر حتى الصبر عن المباح.

 

د. صلاح:

نحن في عصر نريد فيه عالمًا موسوعيًّا لديه أفق واسع جدًّا، أن يقرأ في كثير الفنون والعلوم حتى يتأهل أن يكون لديه فقه في مادة التخصص وفقه الواقع الذي يعيشه، وكيف ينقذ أمته في تخصصه سواء كان تخصصه شرعيًا أو من تخصصات علوم الحياة وكيف يرتقي بها ارتقاءً يصل بها إلى مصافي اﻷمة الرائدة وليست اﻷمة الراكدة.

 

 


لسماع هذه الحلقة: صبر العلماء (2)