آه.. لو يعلم أبو جهل !

موسى بن محمد هجاد الزهراني

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

خواطر غير مبوبة..
ما وطئت قدماي أرض مكة المباركة ( فأخطأ دمع العين مجراه )! . ليس حزنا ولا غما لما أرى من بعض المناظر التي تستنزف الدموع من عين رائيها عنوة .. أقلها .. رؤية أولئك النسوة اللاتي أظنهن أخطأن الطريق .. كن يردن الذهاب إلى الأسواق أو المجمعات التجارية الضخمة فإذا بهن يجدن أنفسهن فجأة داخل الحرم ! متعطرات متزينات لابسات البناطيل ...

من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وإن كان كل ذلك وأكثر ؛ يستحق أن تذرف العين كمدا وهما ؛ بدل الدمع دما ..

ولكن الدموع .. تثيرها ذكريات لا يتفطن لها إلا القليل !

كنت أنظر إلى هذه الجموع الغفيرة ؛ والأفواج العظيمة من بني آدم ؛ على اختلاف ألوانهم ؛ وألسنتهم ومشاربهم ومذاهبهم ؛ فأقول في نفسي : كلهم أتوا بدعوة رجل واحد ؛ مر عليه أيامٌ عصيبة في مكة ؛ وهو في قمة الهم والغم ؛ وحيدا مستخفيا محاربا من قبل أقرب الناس إليه ؛ عشيرته وقومه ؛ بل وعمه أبي لهب ... أتوا بدعوته صلى الله عليه وسلم .. بعد أن ذاق الأمرين في سبيل إخراج العباد من عبادة العباد والأصنام والأوثان.. إلى عبادة رب العباد الواحد الديان ..

كنت أتلفت وأقول : هل يراني من أحد ؟! ؛ أتلفت لأرى (شعب أبي طالب ) الذي كان فيما مضى يوازي ( جوانتنامو) في ( كوبا) اليوم ! ؛ مع الفروق في التقنيات .. وقد مكث فيه صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين .. ثلاث سنين لم ير فيها الكعبة ؛ ولا طاف بها ولا استلم الحجر ؛ ولا صلى في الحجر . كان أبو طالب عمه يغير مكان فراشه صلى الله عليه وسلم كل ليلة ؛ كي لا يفطن له بعض خفافيش الظلام من مشركي مكة فيغتالوه . ثلاث سنين ..ما طاب له فيها طعام ولا شراب ولا منام .. وكل جريمته لديهم أنه أراد إعزازهم ؛ ورفع جباههم عن أعتاب الأصنام .. فحاربوه وعزلوه في شعب أبي طالب مع من دخله معه من أهله ؛ بموجب تلك الصحيفة الظالمة التي خطتها أيدي الكفر قديما ؛ وعلقت في جوف الكعبة ؛ تذكرك اليوم بالقرارات الدولية الظالمة التي تصب في مصالح الغرب فقط ؛ وتدعو إلى محاربة ومقاطعة المسلمين وإعلان الحصار عليهم سنوات طوال . بذنب رجل واحد ؛ يذهب الملايين من الناس رضى لأهواء الكفار .. فما أشبه الليلة بالبارحة ..

كان صلى الله عليه وسلم وأهله وذووه يقتاتون في الشعب مما يبعث إليهم سرا من بعض الذين كانوا يتألمون لوضعهم ؛ ويخالفون قومهم في جورهم ؛ كحكيم بن حزام الذي كان يبعث بالطعام إلى عمته خديجة رضي الله عنها ؛ ولك يكن حكيم قد أسلم بعد رضي الله عنه ؛ فأين من يفعل ذلك اليوم بمن هم في ( جوانتنامو ) ومن يستطيع؟! ؛ فك الله أسرهم .

تلفّتّ لأرى الشعب فلم أره ؛ فتذكرت أن ذلك الشعب وعذاب من كان به قد ذهبت به السنون ؛ ولم يبق إلا نور الإيمان يشع من هذه البقعة إلى أرجاء المعمورة .

والتفتّ لأرى أبا قبيس والقعيقعان ! أتعلمون ما أبو قبيس ؟ إنه أعظم جبل بمكة هو وأخوه القعيقعان . وهما الأخشبان اللذان أراد ملك الجبال إطباقها على رؤوس مشركي مكة لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من رحلة الطائف مهموما مغموما ؛ انتقاما له عليه الصلاة والسلام ؛ لكنه أبى ؛ وقال - بمثالية ما سمع التاريخ بمثلها - ولن يسمع : لا ..بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا . وقد فعل الله ذلك .

لكنني لم أر أبا قبيس ولا القعيقعان ؛ فتطاولت - على قصر قامتي - وأنا في صحن الطواف ؛ لعلي أرى حراء .. ومن يجهل حراء ؟! .. قال فيه الأخ الفاضل ؛ حسان الصحوة ! الدكتور / عبدالرحمن العشماوي :

طب يا حراء فأنت أول بقــعة

في الأرض سوف تبوء بالأخبار

أسمعت شيئا يا حراء عن

الفتى أقرأت عنه دفاتر الأخــــيار


أول بقعة في الأرض باءت بأخبار السماء؛عندما نزل جبريل عليه السلام ؛الأمين الذي تخونه الرافضة ! ؛ على قلب سيد الأنبياء ؛ ونشر الله منها رحمته ونور وحيه إلى الأحياء . أول بقعة سمعت اقرأ ..

اقرأ فديتك يا محـمد عــندما

واجهت هذا الأمر باستفسار

وفديت صوتك عندما رددتــها

آيا من القرآن باسم الباري

وفديت صوتك خائفا متهدجـا

تدعو خديجة أسرعي بدثار


تذكرت وأنا أحاول رؤية حراء ؛ كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى منه الكعبة ؛ فيجمع بين الخلوة بربه عز وجل ؛ ورؤية بيته العتيق ؛ وكأنه لا يريد منظر الكعبة أن يغيب عن ناظريه طرفة عين .. وكان يتحنث في حراء الليالي ذوات العدد ؛ حتى أتاه أمر ربه كما روت عائشة الصديقة رضي الله عنها وعن أبيها وإن رغمت أنوف الروافض .. فهم :

شر من وطأ الحصى

من كل إنس ناطق أو جان ..


كما قال طبيب القلوب ابن القيم رحمة الله عليه .. .. فلم أر حراء .. ولم أستطع ذلك .. وما رأيت إلا تلك العمارات الشاهقات ؛ التي أنشئت لسكنى من أراد زيارة بيت الله العتيق .. إغاظة لأبي جهل ! .. لولا الحياء وأن يصمني بعضكم بالجنون لقلت إنني أردت أن أرفع صوتي :

يا أبا جهل .. يا فرعون الأمة ..

لكنني خفت أن يقبض علي الناس لأنني قطعت على العابد عبادته .. وعلى الطائف طوافه وعلى القاريء قراءته .. فيمسك بي هؤلاء فيقيدوني بالحديد .. ثم يبعثوا بي إلى ( شهار ) لا لأتمتع بالجو العليل الممطر في الطائف هذه الأيام ؛ بل لأحل نزيلا على (مستشفى الأمراض النفسية ) فيحتار في الأطباء لأنهم سيقابلون أول مريض يبحث عن أبي جهل بعد ألف وأربعمائة عام وثلاث وعشرين سنة ! ..

بحثت عن أبي جهل وعن ناديه وعن بيته ، فلم أجد أحدا يدلني عليه ولا عليها؛لأنها أصبحت نسيا منسيا . ولو سألت أحدا من الناس وخصوصا من غير بلاد العرب ؛ أتعرف أبا جهل بن هشام ! لربما قال :
لا .. ولا أعرف أين يسكن ! .

ولو كان (عكرمة) حيا لما أسميت أباه أمامه : أبا جهل ! وليس لحرمة أبي جهل ؛ فما لكافر مشرك حرمة ؛ ولا مراعاة لمشاعره ، ولكنه احتراما لعكرمة رضي الله عنه ! . لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن سب الموتى ولو كانوا كفارا ، لأن فيه إيذاء للأحياء .. وقد قال لما هاجر عكرمة مسلما : " أتاكم عكرمة فلا تسبوا أباه ؛ فإن سب الميت يؤذي الحي " .. وما أسماه أبا جهل إلا النبي صلى الله عليه وسلم كما أعلم .. والله أعلم .

آه .. لو يسمعني أبو جهل ؛ لناديته : هل أخزاك الله ؟ انظر إلى هذه الأمواج من البشر ؛ كيف قدمت على رغم أنفك ,وأنوف مساعديك من الملأ .. من كل فج عميق ؛ تحارب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهبل ؛ وإسافا ونائلة ..

آه لو يعلم أبو جهل ؛ أن التاريخ قد نسي مكان منزله وآثار عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وحفظ موقع معركة بدر وقليبها الذي أنتنته جثته ؛ حينما ألقاه به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بعدما احتفل غلمان الصحابة معاذ ومعوذ إبنا عفراء بقتله واحتز رأسه ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين ؛ وبشروا بقتله النبي صلى الله عليه وسلم ففرح فرحا شديدا وقال : «هذا فرعون هذه الأمة.. » .. ثم وقف على القليب ؛ وبه جثث طغمة الكفر والشرك ؛ معنفا لهم ؛ وكان مما قال لهم :

هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإننا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ..

قال عمر رضي الله عنه : ما تكلم يا رسول الله من جيف قد أرمت .. قالصلى الله عليه وسلم :« ما أنت بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ..»

آه .. لو يعلم .. أن عقبة بن أبي معيط المجرم الآخر قد قتله النبي صلى الله عليه وسلم كافرا بعد بدر صبرا ؛جزاء محاربته لله ولرسوله ..ولم ينفعه وده وصديقه .. وخليله الطاغوت أبي بن خلف الجمحي ..الذي أطاعه في ترك الإيمان بالله ورسوله وأضله بعد الهدى .. وقد قتله النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .. وكأنني به يوم القيامة يعض على كلتا يديه ويدخلهما في فيه ندما وحسرة ولعنة لأبي بن خلف .. { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا }

آه لو علم .. أن عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة والوليد بن عتبة وأبا لهب والوليد بن المغيرة ؛ وأمية بن خلف .. وغيرهم من ملأ قريش ؛ قد محيت آثارهم فلم نعد نستدل على منازلهم ؛ وأنديتهم ؛ ولم نجد لهم أثرا .. فما أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدون شيئا .. ولا أغنى عنهم جاههم وكفرهم بالله وعداوتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم .. فتبا لهم وسحقا ..

لو يعلم أبو جهل ! أن الله تعالى قد استجاب دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فأخرج الله من أصلاب المشركين العتاة من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا .. وأعزه الله بالإسلام وأعز الله به الإسلام .. منهم : عكرمة بن أبى جهل .. الشهيد البطل أخرجه الله من صلب أبي جهل اللعين .. ومنهم .. سيف الله المسلول خالد ؛ خرج من صلب العتل الزنيم ! الوليد بن المغيرة الذي { فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر إن هذا إلا قول البشر } هذا الذي سيصلى سقر ؟ أتدرون ما سقر { لا تبقي ولا تذر لواحةٌ للبشر عليها تسعة عشر }

وأخرج الله من صلب عتبة بن ربيعة ؛ هند بنت عتبة .. وأخرج من بين ترائبها : معاوية رضي الله عنه وأرضاه؛ أول ملوك الإسلام ؛ وكاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وأخو زوجته أم حبيبة بنت أبى سفيان واسمها رملة ..وخرج من صلب عقبة ؛ الوليد بن عقبة بن أبي معيط .. وغيرهم كثير ..

فيا من تذهب إلى مكة .. البلد الحرام ..

إن زرت بيت الله تبغي

رضا أو تشتكي هما وحزنا

ففي تلك الرحاب عظيم

أنس لناء إن دعاه الشوق حنا


لا تنس .. أن تتأمل فيما ذكرت لك .. وكيف أن الله تعالى أعز جنده ؛ ونصر عبده ؛ وهزم الأحزاب وحده .. فلا إله إلا الله وحده .



كتبه /
موسى محمد هجاد الزهراني
مكة المكرمة
الاثنين 17‏/‏6‏‏/‏1423‏هـ

المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام