تنمية الملكات العقلية لطالب العلم

ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يدرس شيئًا من المقرَّرات، أو يحفظ شيئًا من المتون، أو يقرأ شيئًا من الكتب، أن يراعي -حالَ دراسته- تطبيقَ هذه الملكات على ما يدرس أو يقرأ أو يحفظ؛ وذلك لأمرين: الأول تنمية هذه الملكات، والثاني: الاستفادة القُصْوى مِمَّا يطلب؛ لأنَّه إذا لم يفعل ذلك فلن يحصِّل مما درس إلا قليلًا

  • التصنيفات: تربية النفس - طلب العلم -

اكتساب الملكات العقلية أمر فطري موجود عند كل إنسان منذ مولده؛ لأن الله عز وجل فطرَ الإنسان على التأمل والنظر، ومحاولة فهم ما يراه حوله، وما يسمعه من الناس، وكذلك ما يطَّلِع عليه بالوسائل الأخرى؛ كالقراءة مثلًا.

{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل من الآية:78].

والطِّفل يتعلَّم الكلام بهذه الطريقة، وكذلك يتعلَّم المشي، والأكل والشُّرب، والتجاوب مع من حوله... كل هذا يتعلَّمه بما فطره الله عليه من ملكات عقليَّة.

ولكن مِن الناس مَن يُهْمل بعض هذه الملَكات، ومع الوقت تجدها قد ضَمَرت وضعُفت ضعفًا شديدًا، حتَّى تعجب منه؛ لأنه لا يكاد يختلف عن الحَمْقَى والمغفَّلين في طريقة فهمه لبعض الأمور، مع أنَّه في أمور أخرى تراه عاقلًا واعيًا، شديد الفهم!

والسبب في ذلك -كما سبق- هو إهمال هذه الملَكات، وعدم تنميتها، بل قَتْلها في مهدها!

ولأن الله عزَّ وجلَّ خلق البشر متفاوتين لا يستوون فيما بينهم؛ فليس من العجيب أن نَجِد العقلاء يتفاوتون في عقولهم؛ أعني في هذه الملَكات العقلية، فترى بعضهم يفهم ما لا يفهَمُه الآخر، مع أنَّ هذا الآخر أسرع استيعابًا من الأول في شيءٍ آخر.

والعقلانيُّون المعاصرون أعمَلُوا عقولهم في بعض الأشياء، مع تقصيرهم في أشياء أخرى أهمّ منها، فصاروا يظنُّون أنَّ ما معهم هو نتيجة العقل الصريح، وأن مخالفة غيرهم لهم سببها تقصير الآخرين في إعمال العقل، ونسوا أنَّ إعمال العقل أمر فطري لازم للإنسان، لا يستطيع الانفِكاك عنه إلاَّ إذا خالف هو بنفسه هذه الفطرةَ وقتَلَها، فالعالِمُ الذي يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث إذا كان يُعْمِل الملَكات العقليَّة في أثناء حفظها، فلا شكَّ أنه سيكون أعقل بِمَراحل من هؤلاء العقلانيِّين، والفقيه الذي درس مئات المسائل الفقهية إذا كان يعمل هذه الملكات في أثناء دراستها، فلا شكَّ أنه سيحصِّل قدرًا من العقل أكبر من هؤلاء؛ وذلك لأنَّهم أضاعوا أعمارهم في محاولة فهم مسائل معدودة على الأصابع، من غير أن يُرَبُّوا هذه الملكات في أنفسهم، فتاهوا في بحار الشكِّ والحيرة، حتى رجع الحُذَّاق منهم إلى عضِّ أصابع الندم في آخر عمره، وبقي السَّادرون في غيِّهم يدافعون عما عندهم من دعاوى، لا تُسْمِن ولا تغني من جوع.

وسبيل تنمية هذه الملكات العقلية سبيلٌ فطري، ينبغي أن يحافظ الإنسان عليه، وينمِّيَه؛ لكي يستمرَّ معه بقية حياته، فينمو ويتطوَّر مع الوقت حتَّى يصير كامل العقل، تام الفهم.

فمن هذه الملكات:

ملَكة الانتقال من اللاَّزم إلى الملزوم، ومن الدليل إلى المدلول:
فالتَّفاوُت بين فقيهٍ وفقيه ليس أنَّ ذاك يحفظ ألف دليل، وهذا يحفظ مائة دليل، ولكن: أنَّ هذا يمكنه أن يستنبط من هذه الأدلَّة أضعاف ما يمكن الآخر أن يستنبطه.

ومنها: ملاحظة التناقض والاختلاف:
وهذه الملَكة من أهمِّ ملكات طالب العلم؛ لأنه قد يقول القول في بعض المسائل، ويبنيه على شيء، ولا ينتبه أنَّه في مسألة أخرى قد نقض ما أصَّلَه وبناه على ضدِّه، وكذلك ملاحظة هذا التناقض في كلام بعض العلماء.

ومنها: ملاحظة التطابق والتشابه والتقارب:
وذلك حتى يعطي الأشياء المتطابقة أحكامًا متطابقة، والأشياء المتشابهة أحكامًا متشابهة، أو على الأقلِّ يربط بين هذه الأشياء؛ لِيُمكنه بعد ذلك استعمالها في التعميم والتجريد.

ومنها: التعميم والتجريد:
وهي من أهمِّ الملَكات العقليَّة التي لا يستطيع الإنسان -فضلًا عن طالب العلم- أن يعيش مِن دونها، فأنت إذا رأيت كتابًا أحمر اللون ثم رأيتَ أزرق اللون، فهمت تلقائيًّا -بما فطرك الله عليه- أن الكتاب أعمُّ من أن يكون أحمر أو أزرق، وإذا رأيت طبقًا كبيرًا وطبقًا صغيرًا، علمت بهذه الفطرة أيضًا أن الطبق أعمُّ من أن يكون صغيرًا أو كبيرًا، وهكذا.

ومنها: القياس:
وقديمًا قال الحكيم:

مَنْ قَاسَ مَا لَمْ يَرَهُ بِمَا رَأَى *** أرَاهُ مَا يَدْنُو إِلَيْهِ مَا نَأَى 

ومنها: الربط بين القرائن والأحوال:
فإذا قرأ كلامًا لعالم استحضر تلقائيًّا العصر الذي يعيش فيه، ومؤلفاته مثلًا، ومرتبته العلمية، وما يتعلَّق به من أحوال؛ لكي يكون حكمُه بناء عليها.

ومنها: سرعة البديهة:
بالانتقال السريع من المقدِّمات إلى النتائج، ومن الملزومات إلى اللَّوازم، ومن الأثر إلى المؤثِّر، وهكذا، وسرعة استيعاب المعنى المقصود من كتابة الكاتب وكلام المتكلِّم.

ومنها: قوة الملاحظة:
بالتنبُّه للدقائق، ورؤية التفاصيل، والانتباه للفروق بين الألفاظ، والتعبيرات، والأشكال، وغيرها.

ومنها: اكتشاف الاحتمالات وتدبر الممكنات:
وقديمًا قال بعض السلف: لا يعلم المرء حقَّ العلم حتى يرى للكلام وجوهًا.

... إلخ؛ فالمقصود أنَّه ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يدرس شيئًا من المقرَّرات، أو يحفظ شيئًا من المتون، أو يقرأ شيئًا من الكتب، أن يراعي -حالَ دراسته- تطبيقَ هذه الملكات على ما يدرس أو يقرأ أو يحفظ؛ وذلك لأمرين: الأول تنمية هذه الملكات، والثاني: الاستفادة القُصْوى مِمَّا يطلب؛ لأنَّه إذا لم يفعل ذلك فلن يحصِّل مما درس إلا قليلًا، ولذلك نجد بعض من يُهْمل هذه الملكات يحفظ المتون المطوَّلة، ويقرأ الكتب الكثيرة، وهو مع ذلك لا ينتبه لِلَوازم ما يقرأ، ولا يطبِّقه على نفسه، ولا يعلم حدودَ ما فيه من صوابٍ أو خطأ، ولا يستطيع أن يضعه في إطاره الصحيح، فيعمّم في غير محلِّ التعميم، ويخصص في غير موضع التخصيص، ويقيس في غير مكان القياس، ويَجْمد في غير مقام الجمود.

وهناك كثير من الألعاب وأساليب التَّرفيه التي تُستعمل في تقوية هذه الملكات وتنميتها؛ مثل الألغاز الرِّياضية والعقليَّة، ومثل حلِّ الشفرات، ومثل ألعاب الذَّاكرة والكلمات، ومثل فوازير الحساب، ومثل ألعاب اكتشاف الاختلافات، وابحث في الصُّورة عن كذا...

إلى غير ذلك من الألعاب التي يراها بعض الناس شيئًا تافهًا لا يليق بطالب العلم أن يضيع وقته فيه، وهذا خطأ؛ لماذا؟
أولًا: لأنَّ طالب العلم يحتاج إلى الترفيه في بعض الوقت، وإذا كانت هذه الأشياء تساعد على تنمية الملكات العقليَّة، فلا شكَّ أنها أفضل ما يَصْرف فيه المرء وقته إذا أراد أن يرفِّه عن نفسه.

وثانيًا: لأنَّ طالب العلم إذا لم يكن ينمِّي هذه الملكات عمَليًّا فيما يدرسه من العلوم، فهو في حاجة شديدة جدًّا إلى مثل هذه الأمور؛ حتَّى يتم التوافق بين بنائه العلمي وبنائه العقلي؛ لأنَّ المرء إذا كان عقله أكبر من علمه كثيرًا، حمله ذلك أحيانًا على الشُّذوذ والتطرُّف، وإذا كان علمه أكبر من عقله كثيرًا، حمله ذلك أحيانًا على سوء الفهم، ووَضْع الكلام في غير موضعه.

والله الموفِّق.

 

 

أبو مالك العوضي