إِصلاح الأُمم بعد فسادها

إنَّ إِصلاح الأُمم بعد فسادها بالظُّلم والاستبداد، إِنَّما يكون بإِنشاء جيلٍ جديدٍ يجمع بين حرِّيَّة البداوة واستقلالها وعزَّتها، وبين معرفة الشَّريعة والفضائِل والعمل بها.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتُساس بالظلم والاضطهاد؛ تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتُضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع.

وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخُلُقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها ورفعت عن رقبته نيرها؛ أَلْفَيْتَه ينزع بطبعه إليها، ويتفلت منك ليتقحم فيها.

وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر.

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أُمَّة الدعوة، فقال: «مَثَلي ومَثَلكم كمَثَلِ رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن، ويغلبنه فيتقحمن فيها؛ فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحَّمون فيها» (رواه الشيخان).

أفسد ظلمُ الفراعنة فطرةَ بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها طابع المهانة والذّلِّ، وقد أراهم الله تعالى ما لم يُرِ أحدًا من الآيات الدَّالَّة على وحدانيَّته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السَّلام، وبيَّن لهم أنّه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذُّلِّ والعبوديَّة والعذاب إِلى الحرِّيَّة والاستقلال والعزِّ والنَّعيم، وكانوا على هذا كلِّه إِذا أَصابهم نَصَبٌ أَو جوعٌ أَو كُلِّفوا أَمرًا يشقُّ عليهم؛ يتطيَّرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر، ويحنُّون إِلى العودة إِليها، ولمَّا غاب عنهم أَيَّامًا لمناجاة ربِّه، اتَّخذوا لهم عجلًا من حُليِّهم الَّذي هو أَحبُّ شيءٍ إِليهم وعبدوه، لِـمَا رسخ في نفوسهم من إِكبار سادتهم المصريِّين، وإِعظام معبودهم العجل (أَبيس).

وكان الله تعالى يعلم أَنَّهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أَرض الجبَّارين، وأَنَّ وعده تعالى لأَجدادهم إِنَّما يتمُّ على وفق سنَّته في طبيعة الاجتماع البشريِّ، إِذا هلك ذلك الجيل الَّذي نشأَ في الوثنيَّة والعبوديَّة للبشر وفساد الأَخلاق، ونشأَ بعده جيلٌ جديدٌ في حرِّيَّة البداوة وعدل الشَّريعة ونور الآيات الإِلهيَّة.


وما كان الله ليهلك قومًا بذنوبهم حتَّى يبيِّن لهم حجَّته عليهم؛ ليعلموا أَنَّه لم يظلمهم وإِنَّما يظلمون أَنفسهم، وعلى هذه السُّنَّة العادلة أَمر الله تعالى بني إِسرائِيل بدخول الأَرض المقدَّسة بعد أَن أَراهم عجائِب تأْييده لرسوله إِليهم، فأَبوا واستكبروا، فأَخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأَنشأَ من بعدهم قومًا آخرين، جعلهم هم الأَئِمَّة الوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأَعمالهم الموافقة لسنَّته وشريعته المنزَّلة عليهم.

فعلينا أَن نعتبر بهذه الأَمثال الَّتي بيَّنها الله تعالى لنا، ونعلم أَنَّ إِصلاح الأُمم بعد فسادها بالظُّلم والاستبداد، إِنَّما يكون بإِنشاء جيلٍ جديدٍ يجمع بين حرِّيَّة البداوة واستقلالها وعزَّتها، وبين معرفة الشَّريعة والفضائِل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السَّالفة الأَنبياء، وإِنَّما يقوم بها بعد ختم النُّبوَّة ورثة الأَنبياء، الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع وبين البصيرة والصِّدق والإِخلاص في حبِّ الإِصلاح وإِيثاره على جميع الأَهواء والشَّهوات، {وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33].

 

محمد رشيد رضا.

المصدر: تفسير المنار (6/ 279).