أنتَ أرْفَعُ مِنَ الأحقاد
عائض بن عبد الله القرني
أسعدُ الناس حالاً وأشرحُهم صدْراً، هو الذي يريدُ الآخرة، فلا يحسُدُ الناس على ما آتاهم اللهُ منْ فضْلِهِ، وإنما عنده رسالةٌ من الخيرِ ومُثُلٌ ساميةٌ من البِرِّ والإحسانِ، يريدُ إيصال نفْعِه إلى الناسِ، فإنْ لم يستطعْ، كفَّ عنهم أذاه.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
- أنتَ أرْفَعُ مِنَ الأحقاد: أسعدُ الناس حالاً وأشرحُهم صدْراً، هو الذي يريدُ الآخرة، فلا يحسُدُ الناس على ما آتاهم اللهُ منْ فضْلِهِ، وإنما عنده رسالةٌ من الخيرِ ومُثُلٌ ساميةٌ من البِرِّ والإحسانِ، يريدُ إيصال نفْعِه إلى الناسِ، فإنْ لم يستطعْ، كفَّ عنهم أذاه.
وانظرْ إلى ابنِ عباسٍ بحْرِ العلمِ وترْجُمانِ القرآنِ، كيف استطاع بخُلُقه الجمِّ وسخاوةِ نفسِه مساراتِه الشرعّةِ، أنْ يحوِّل أعداءهُ منْ بني أُميَّةَ وبني مروان ومنْ شايعهم إلى أصدقاء، فانتفع الناسُ بعلْمِه وفهْمه، فملأ المجامع فِقهاً وذكراً وتفسيراً وخيْراً. لقد نسي ابنُ عباسٍ أيام الجمَلِ وصِفِّين، وما قبلها وما بعدها، وانطلق يبني ويُصلحُ، ويرتُقُ الفتْقَ، ويسمحُ الجراح، فأحبَّهُ الجميعُ، وأصبح – بحقٍّ حبْرَ الأمةِ المحمديةِ. وهذا ابنُ الزبيرِ – رضي اللهُ عنه -، وهو منْ هو في كرمِ أصلِهِ وشهامِته وعبادتِه وسموِّ قدرِه، فضَّل المُوجَهةَ مجتهداً في ذلك، فكان من النتائجِ أن شُغِلَ عن الرِّوايةِ، وخسِر جمْعاً كثيراً من المسلمين، ثمَّ حصلتِ الواقعةُ فضُرِبتِ الكعبةُ لأجل مُجاوَرَتِه في الحرمِ، وذُبِح كثيرُ من الناسِ، وقُتِل هو ثمَّ صُلِب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً}. وليس هذا تنقُّصاً للقومِ، ولا تطاوُلاً على مكانتِهم، وإنما هي دراسةٌ تاريخيَّة تجمعُ العِبَرَ والعِظاتِ. إنَّ الرِّفق واللِّين والصَّفح والعفْو، صفاتٌ لا يجمعُها إلاَّ القِلَّةُ القليلةُ من البشرِ، لأنها تُكلِّفُ الإنسان هضْم نفْسِه، وكبْح طموحِه، وإلجام اندفاعِه وتطلّعِه.
- وقفـة: قولهُ صلى الله عليه وسلم: «
الصبرُ إذا قام به العبد كما ينبغي، انقلبتْ المِحنةُ في حقِّه مِنْحةً، واستحالتِ البليَّة عطيَّة، وصار المكروهُ محبوباً، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يبْتلِهِ عطيَّة، وصار المكروهُ محبوباً، فإنَّ الله تعالى على العبدِ عبوديَّةً في الضَّراءِ، كما له عبوديَّةٌ في السَّرَّاءِ، وله عبوديَّةٌ عليه فيما يحبُّونه، والشأنُ في إعطاءِ العبوديَّةِ في المكارِهِ، ففيه تفاوتُ مراتبِ العبادِ، وبحسبِه كانتْ منازلُهم عند اللهِ تعالى.
» يعنى أنَّ العبد إذا اتَّقى الله وحفظ حدودهُ، وراعى حقوقهُ في حالِ رخائِه، فقد تعرَّف بذلك إلى اللهِ، وصار بينه وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّةٌ، فمعرفهُ ربُّه في الشِّدَّةِ ورعى له تعرُّفهُ إليه في الرخاءِ، فنجَّاهُ من الشدائدِ بهذِه المعرفة، وهذه معرِفة خاصَّةٌ، تقتضي قُرب العبدِ من ربِّهْ ومحبَّته له وإجابتهُ لدعائِه.