كن حيث كان قلبك
قلب نابض حي، يقلب كيان الإنسان إلى نعيم سرمدي، وصلاح أبدي، ورضا تام، ومستوي راقي من الإيمان.. يذوب في الأعمال الصالحة، لا يمل ولا يَكلّ، فقلبه القوي يتلذذ بالصالحات، ولا يتعب مما يحبه ويشتهيه، تحول قلبه إلى قائد وميزان، يصوب له الطريق، ويصف له الصواب، ويفرق بين النور والظلام.
- التصنيفات: تزكية النفس -
القلوب جوارح ثمينة القدر، عميقة الأثر، معجزة التركيب، فمنذ وطئها متنَ الحياة تستقبل رسائل سرمدية، تبقى، تستمر، تتوغل، تستقبل جدولًا منظمًا من الآثار الفطرية النقية التي تنطبع في خلجات الصدور، على هيئة نقوش تجتمع وتتكون وتكبر وتتشكل، حتى إذا ما ترعرع القلب وجد عنده من الشعور والرغبة الكامنة ما توجه ميوله وتقيم سلوكه.
وتُعَد فطرة القلب، هي وتد الإرادة الحاسمة في الإنسان، هي الطريق الأول، والرغبة الأولى، والاختيار الأول في شتى الأمور، فإن عَزَم القلبُ؛ ساق الجسد بأكمله وجوارحه إلى نيل ما يريد، وإنْ كره؛ ساق الجوارح للبعد عما يكره..
إذن فهو الآمر والناهي لدى الإنسان، هو المعلم الفطري، والمرشد الرباني، والجسر الوحيد بين الجسد والروح والسماء..
وكما أن السماء خافية الملامح إلا من النجوم، والصحراء مضللة الطرق إلا بالدليل، والأرض ضبابية المسالك إلا بالبوصلة، فإن الإنسان تائه بأفعاله وحدها دون ضوابط وطريق واضح، يخوض المجهول إلى المجهول، لا يلبث أن يرى طريقه بوضوح حتى تتشقق حوله العديد من الطرق، وما يلبث أن يختار إحداها عن اقتناع ورضا داخلي حتى يخيب مسعاه وينجذب إلى طريق آخر..لا ينظم نبرات حياته وسبلها وما فعل وما يجب أن يفعل إلا قائده، ألا وهو القلب.
حريٌ بهذا القلب أن يكون التعامل على أساسه، والمشورة الداخلية بحضرته، وتدخل الضمير بإشرافه، فلا يكون التعامل على أساس الناس إذ هم أسهل ما يكون البعد عنهم، والاختلاء بالنفس بعيدًا عن مشاكلهم وريائهم وطرقهم المتعرجة، فمِن البُعد عن الناس والاختلاء بالنفس والقلب لتقويمها عبادة.. ومن البعد عن الناس والاختلاء بالنفس وحدها لهو قد يؤدي إلى الموبقات.
إن التعامل على أساس القلب هو تعامل الصِّدِّيقين الكرام، الذين يعيشون في هذه الدنيا بأجسادهم، وأرواحهم معلقة بالسماء، السائرون في النور الرباني، والهداية الإلهية، والحفظ الملائكي.
هم مَن أسسوا علم التعاملات القلبية وسط علوم التعاملات الذاخرة في الحياة، وكان ذلك هو المنهاج الأصح، والطريق الأكثر تمهيدًا نحو الوصول إلى آخر الدنيا بسلام.
أتحدث هنا بوضوح عن اتباع القلب، فهو القائد الوحيد الذي يستقبل ردودًا على أفعاله من الصواب مباشرة، فبذكر الله يستقبل اطمئنانًا، وبمعصيته يستقبل همًّا وحزنًا، يقول تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّـهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّـهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].
إن الذي يعيش حيث يكون قلبه، هو مَن إذا شعر بالحرام في قلبه امتنع عنه، وصرف عنه سائر اهتمامه العقلي والروحي، وانتزع نفسه منه حتى وإن كان في هذا الأمر ما يحبه وما يصادف هوى في صدره، ينخلع منه مهما سمع من نداءات متطايرة، وكلام يتبعثر بين الألسنة، إذ يؤَمن نفسه ويحميها، ويستخلص روحه من بئر الشبهات، ويُبعد نفسه عن المتاهات المظلمة، أو الطرق المزيفة الخلابة، ليبقى في الطريق صامدًا على منهاج قلبه وربه.
هو من إذا شعر بالحلال في قلبه؛ فرح، وأقبل على فعله بعدما يتأكد من صدق ما في قلبه من العلم والشريعة، حتى ينفض حبات الغبار التي تعكر صفوه إلى السعادة، ويزيل الوسوسات القابعة في الطريق نحو الفرح، فما أجمل حلال الدنيا إذ اكتفى به قلبه عن حرامها، وما أجمل لذة العبادة إذ اقتناها لقلبه وسط ملذات الدنيا الزائفة.
قلبه قائده، قائد يتلقى أوامره من الخالق مباشرة، ما أجمل الطريق إن كان المرء على وصال مباشر برب الأكوان ومسبب الأسباب، وعلى انقياد تام إلى قلب خالٍ من الشبهات متيقن من طريقه، ثابت على الحق، لا يخيب رجاء من يتبعه، ولا يضل من يهتدى به إذ هو يهتدي برب السماء.
المسلم قلبه قائده، لذا فتقلب القلب لهو كارثة عظمى، وانهيار كبير، وخيانة في منتصف الطريق، لذلك كان يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم [2654])، فمَن للجيش إذا تغيرت عقيدة قائده في الميدان، ومَن للروح والجسد إذا تقلبت موازين قائدها بينما تمضى الحياة؟!
إن العصمة من المعاصى هي صفات الأنبياء وحدهم، لذلك مهما بلغ العبد من الإيمان والربانية، تجده فاقدًا لشىء، إذ أن طريق الربانية في الأصل هو تكامل ما بين سلوك المرء والتوبة والإنابة، وتراه بعيدًا حينما تشرق الشمس، تائبًا إذ هي غربت، باكيًا إذ دقَّ الفجر أبواب السماء، وتوهجت النجوم في أفلاكها، وتعالت أصوات المآذن تقطعها شقشقة الطيور.
وقد ينتظم على الاستقامة بضعة أيام ثم يعصي، تراه يومًا مشرقًا تائبًا، ويومًا خائب الرجاء ضعيفًا. هنا يسطع دور القلب كقائد ومربٍ وموجه، وتبرز قيمته العالية، فترى الذي هو قلبه قائده يخجل من نفسه سريعًا، يستحقر عمله ومعصيته، يتدخل قلبه في إزاحة قدمه ووضعها على طريق التوبة سريعًا بشكل غاية في الدقة والانسيابية.
أما الذي في بُعْدٍ عن قلبه، فيرى نفسه تائه المعالم، يبحث في كل مكان عما يُثَبّت إيمانه مع ربه، يدور في سمائه وأرضه وأكوانه، يفترش الحزن، ورغم ذلك لن يستوي له الطريق، ولن تُضاء في وجهه عيون المصابيح الناعسة من جديد، فقد باء بفقدان الأمل الوحيد، ألا هو القلب الموصِّل إلى الله.. فالثبات مع الله في حالة إيمانية والسعي لزيادته والصمود في طريق الحق يلزمه أن يكون المرء يعامل الله قلبيًّا.
إن العمل الظاهر للإنسان، لهو عبارة عن صورة لعمل القلب، لذا ترى ذوي القلوب النظيفة أعمالهم خالصة مخلصة يشهد لها بالتقوى والصواب، وذوي القلوب العفنة التي تمكَّن الران من ثناياها تنضح على الجوارح بكل ما هو خبيث، فالأصل هو عمل القلب، وما يصدر منه تجاه الجوارح، لذلك وجب تقوية القلب وتدعيمه حتى يقدر على إدارة الذات إدارة كاملة مسيطرة، وقيادتها نحو الجنة في موكب من الصعوبات والفتن.
فكان العلماء -في مسألة تدعيم القلب- لا فقط ينصحون بالأعمال الكبيرة، الظاهرة، بل يؤكدون على الأعمال الخفية، بين العبد والمعبود، يكتبون عن دموع الخشية من الله كيف وأنها أثمن من اللآلئ والدرر، والصدقة الخفية الخالصة لله، والدعاء في جوف الليل، وكأنَّ الدنيا بما فيها من ازدحام للخلائق، أجمل ما تحويه هو الانفراد بالمعبود عز وجل.
من صلح قلبه، تغير حاله، وتفتحت أبواب سمائه، وفاض النور في دنياه، واقتربت الجنة من أشواقه، وتوالت أنفاسه ذكرًا لله، وتخلص من الشبهات والشهوات، ها قد سمى إلى الملائكة، وانتزع نفسه من غياهب القاع البعيد، يصبح ربانيًّا لأن المضغة الرئيسية في جسده قد أصبحت ربانية، تعامله مع الله، يراقب الله، ويعلم أنه يراه.. ويعبده كأنه يراه..
قلب نابض حي، يقلب كيان الإنسان إلى نعيم سرمدي، وصلاح أبدي، ورضا تام، ومستوي راقي من الإيمان.. يذوب في الأعمال الصالحة، لا يمل ولا يَكلّ، فقلبه القوي يتلذذ بالصالحات، ولا يتعب مما يحبه ويشتهيه، تحول قلبه إلى قائد وميزان، يصوب له الطريق، ويصف له الصواب، ويفرق بين النور والظلام..
هشام خالد.