دور الفرد في حركة التاريخ

راغب السرجاني

رفع الكثيرون درجة التزامه بالدين حتى جعلوه رمزًا دينيًّا صريحًا، وهاجمه الكثيرون في النقطة ذاتها حتى اتهموه بالعلمانية الفجَّة؛ بل بالكفر الصريح! وقام كثيرون بتعظيم وطنيته وتقدير حبه لبلاده، وقام غيرهم باتهامه بالعمالة للصهاينة وبالتبعية للغرب.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

الفرد الموهوب

يعتقد بعض المؤرخين أو كثير منهم أن هناك مبالغة في تقدير دور الفرد في تغيير حركة التاريخ؛ فينظرون إلى التغيير على أنه نتاج حركة المجتمع أو الشعب، ثم يترأَّس هذا التغيير فرد قد يُنسب إليه ظلمًا النجاح كله.

هذه الرؤية، وإن كانت تحرص على عدم هضم حقوق الشعب والأُمَّة إلا أنها تُغفل أمرًا أنا أعتبره من السنن التي وضعها الله عز وجل في الأرض لكي تنتظم حياة الناس، وهذا الأمر هو أن الله عز وجل خلق بعض البشر القليلين الذين لهم قدرة باهرة على قيادة الجموع، والذين يستطيعون تحريك الطاقات الكامنة في داخل كل إنسان فيحدث التغيير. نعم يُشارك الكثيرون في التغيير، لكن مَن الذي دفعهم إلى المشاركة، ومَن الذي حوَّل سلبيتهم المقيتة إلى إيجابية منتجة، ومَن الذي دفعهم إلى التضحية والبذل، بل ومَن الذي رسم لهم الطريق الذي يسيرون فيه، ووضع لهم الأهداف التي ينبغي أن يسعوا إلى تحقيقها.

إنه هذا الفرد الموهوب، الذي تكون سعادة الجيل بظهوره، ويكون نجاح التغيير بدخوله إلى حلبة الصراع.

 

رؤية الإسلام حول دور الفرد في حركة التاريخ

وإلى هذا المعنى أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرَّة في أحاديثه وتربيته للمسلمين؛ فهو الذي قال: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً (1)»(2). 

وهو الذي قال: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهَا دِينَهَا»(3).

وهو يعتبر أبا بكر الصديق رضي الله عنه أثقل من الأُمَّة بكاملها، وكذلك يعتبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أثقل من كل الأُمَّة إذا خلا منها الصديق، والكلام نفسه بالنسبة لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك كله في الحديث الشريف الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ المَقَالِيدَ وَالمَوَازِينَ، فَأَمَّا المَقَالِيدُ: فَهَذِهِ المَفَاتِيحُ، وَأَمَّا المَوَازِينُ: فَهَذِهِ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ»(4).

وبالمنهج نفسه قال أبو بكر الصديق في حقِّ القعقاع بن عمرو التميمي: "لصوت القعقاع في جيش خير من ألف رجل"(5).

وعندما أمدَّ عمر بن الخطاب عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيش إضافي ليُساعده على فتح مصر زوَّد هذا الجيش بأربعة رجال، قال عنهم: "إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كلِّ ألف رجل منهم رجلٌ مقام الألف". وهم: المقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، والزبير بن العوام، ومسلمة بن مخلد(6)، وعندما تمنَّى كانت أمنيته رجالاً أمثال أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ فقد قال عمر بن الخطاب لجلسائه: تمنوا. فتمنوا، فقال عمر لكني أتمني بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح(7).

وحفل التاريخ الإسلامي بعد جيل الصحابة بالمئات من الرجال الذين غيَّروا من مسار التاريخ، وصنعوا مجدًا هائلاً للأُمَّة؛ منهم على سبيل المثال لا الحصر كان قادة الدول؛ مثل: عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد، وعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وألب أرسلان، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، ويوسف بن تاشفين، وسيف الدين قطز، ومحمد الفاتح، وغيرهم.

ومنهم من العلماء أمثال سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، وغيرهم، وغيرهم.

إنهم والحمد لله كثيرون، وبهم يُصَحَّح المسار، وتُوَفَّق الأُمَّة إلى رُشدها.

ولكن لعل هناك ما يلفت أنظار القرَّاء من أن كل الأمثلة التي ذكرناها تقع في عمق التاريخ؛ فقد مرَّ على كل واحد منهم عدَّة مئات من السنوات، وعانت الأُمَّة الإسلامية في فتراتها الأخيرة من نقص التدوين الخاص برجالها الأفذاذ الذين يظهرون في كل وقت وزمن، وهذا أثار عند الكثيرين مشاعر الإحباط واليأس؛ وظنُّوا أن الأُمَّة تاريخ بلا واقع، وسلف بلا خلف. 

أردوغان نموذج الفرد الملهم

والواقع الذي لا جدال فيه أن هذه الأُمَّة تُقَدِّم على سبيل الدوام من الرموز ما يمكن أن يقودها إلى كل خير، وما يصلح أن يجعلها قدوة لكل الإنسانية؛ وفي هذا الصدد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(8).

وقد فكَّرْتُ في اختيار رمز من الرموز الحديثة تتحقق فيه حسبما أرى ملكات القيادة والقدرة على التغيير؛ حتى أشرح قصَّته للمسلمين فيعرفوا أن أُمَّتهم بخير، وأنها دومًا تُقَدِّم الجديد الذي يُصلح من شأن البشر، ووقع اختياري على الزعيم التركي الجليل أردوغان!

وأردوغان في واقع الأمر شخصية مثيرة للغاية؛ فقد رفع الكثيرون درجة التزامه بالدين حتى جعلوه رمزًا دينيًّا صريحًا، وهاجمه الكثيرون في النقطة ذاتها حتى اتهموه بالعلمانية الفجَّة؛ بل بالكفر الصريح! وقام كثيرون بتعظيم وطنيته وتقدير حبه لبلاده، وقام غيرهم باتهامه بالعمالة للصهاينة وبالتبعية للغرب، وقام فريق ثالث بتعظيم تجربته الاقتصادية ونموذجه التركي البارز، بينما قام فريق آخر باتهامه بأنه لم يفعل شيئًا للاقتصاد التركي، وأن ما حققه من نجاحات ما هي إلا أوهام يضحك بها على شعبه!!

لقد كان أردوغان شخصية مثيرة لكثير من الجدل.

وأنا كعادتي إذا أردتُ أن أفهم شخصية، أو أُحَلِّل موقفًا لا بُدَّ أن أعود إلى جذور قصته، وإلى أصل حكايته.

وقصة أردوجان قصة عميقة في التاريخ . جذورها تصل إلى الخلافة العثمانية الكبيرة، وتمرُّ بمراحل متعددة متباينة. فيها السعادة وفيها الحزن، وفيها النجاح وفيها الفشل، وفيها النصر وفيها الهزيمة.

إنها قصة رمز لا نستطيع أن نُغفل أمره؛ فقد صار ملء سمع وبصر الدنيا. فما حقيقة أردوجان؟ وما جذور قصته؟ وما أهدافه وطموحاته؟ وكيف يمكن لمستقبل تركيا والمسلمين أن يكون في ظلِّ حُكْم هذا الزعيم؟

المصدر: كتاب قصة أردوجان للدكتور راغب السرجاني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] قال ابن قتيبة: الراحلة هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب، فإذا كانت في إبلٍ عُرفت، ومعنى الحديث: أنَّ الناس في النَّسب كالإبل المائة التي لا راحلة فيها فهي مستويةٌ. وقال الأزهريُّ: الراحلة عند العرب الذَّكر النجيب والأنثى النجيبة.. قال: وقول ابن قتيبة غلطٌ، والمعنى: أنَّ الزَّاهد في الدُّنيا الكامل فيه الرَّاغب في الآخرة قليلٌ كقلَّة الرَّاحلة في الإبل. وقال النووي: هذا أجودُ، وأجودُ منهما قول آخرين: إنَّ المرضيَّ الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليلٌ. انظر: ابن حجر: فتح الباري، 11/335. 

[2] البخاري (كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة [6133] عن عبد الله بن عمر، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» [2547]).

[3] أبو داود (كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة [4291] عن أبي هريرة، وقال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يَجُزْ به شراحيل. والحاكم [8592])، والطبراني (المعجم الأوسط [6/324]. وقال السخاوي: وقد أخرجه الطبراني في الأوسط كالأول (يعني حديث أبي داود) وسنده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، وكذا صححه الحاكم. انظر (المقاصد الحسنة ص[203]، وصححه الألباني، انظر (السلسلة الصحيحة [599]).

[4] أحمد في (مسنده [5469]، ومصنف ابن أبي شيبة [30484]، والطبراني (المعجم الكبير [13/66]، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، إلاَّ أنه قال: «فَرَجَحَ بِهِمْ». في الجميع. وقال: «ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُضِعَ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَرَجَحَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ»، ورجاله ثقات. انظر (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد [9/59]).

[5] ابن الأثير (أسد الغابة [4/390]، والذهبي (تاريخ الإسلام [3/662]).

[6] وقال آخرون: بل خارجة بن حذافة الرابع. لا يعدّون مسلمة، انظر: ابن عبد الحكم (فتوح مصر والمغرب ص[83]، وابن تغري بردي (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة [1/8]).

[7] ابن سعد (الطبقات الكبرى [3/315] وابن الأثير (أسد الغابة [1/706]، والذهبي (سير أعلام النبلاء [1/14]).

[8] البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي..». [6881]، ومسلم عن ثوبان مولى رسول الله (كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي..». [1920] واللفظ له).