نظرات تربوية في فكر الحسن البصري رحمه الله
خالد سعد النجار
يُعد الحسن البصري من أبرز أعلام المدرسة التربوية الإسلامية الذي كشفت أقواله ومواقفه عن فكرٍ تربوي أصيل، يمكن أن نوجزه في محورين أساسيين لا غنى لأي تربيةٍ إسلامية رشيدة عنها نُقدِّمها لمن أراد النبع الإسلامي الصافي وتوجه إليه بصدقٍ لينهل من رحيق الإيمان العذب..
- التصنيفات: الزهد والرقائق - أخبار السلف الصالح -
شهدت الأمة الإسلامية في العقود الأخيرة محاولات جادة من أبنائها المخلصين لبعث حضاري جديد قائم على التعاليم الإسلامية السامية، وتباينت من أجل هذا البعث الآراء حول عملية التربية التي تُعتبَر الركن الأساسي لأي نهضة مرجوة، وبعيدًا عن ركام العديد من النظريات التي تنطوي على أفكار غريبة عن إسلامنا وتقاليدنا لا بد أن لا ننسى حقيقة أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، إذ قدَّم السلف من علماء الأمة الربانيين العديد من الآراء والمبادئ التي تُمثِّل القاعدة الكبرى لأي تربية إسلامية حقيقة.
ويُعد الحسن البصري من أبرز أعلام المدرسة التربوية الإسلامية الذي كشفت أقواله ومواقفه عن فكرٍ تربوي أصيل، يمكن أن نوجزه في محورين أساسيين لا غنى لأي تربيةٍ إسلامية رشيدة عنها نُقدِّمها لمن أراد النبع الإسلامي الصافي وتوجه إليه بصدقٍ لينهل من رحيق الإيمان العذب.
صلاح الظاهر معقود على صلاح الباطن
لما كان القلب للأعضاء كالمَلك المُتصرِّف في الجنود الذي تصدر عن أمره كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أول ما اعتمد عليه السالكون والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89]
وقال صلى الله عليه وسلم: « » (متفقٌ عليه).
ولقد تعدَّدت وتنوَّعت أقوال الحسن البصري التي تُقرِّر هذه القاعدة التربوية الجليلة القائمة على تطهير القلب من أدران الشرك والحقد والغل والحسد و… و… وإصلاحه بالإيمان واليقين والمراقبة والطاعات ومختلف أنواع القربات.
فيقول رحمة الله عليه: "حادِثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور[1] واقرعوا[2] هذه الأنفس فإنها تنزع إلى شرِّ غاية".
ويقول: "ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع وذبل واستقام واقتصد حتى يأتيه الموت".
وقال: "باليقين طُلِبت الجنة، وباليقين هربت من النار، وباليقين أُدِّيَت الفرائض على أكمل وجهها، وباليقين أصبر على الحق وفي معافاة الله خير كثير".
وقال: "الناس في العافية سواءً فإذا نزل البلاء سكن المؤمن إلى إيمانه والمنافق إلى نفاقه".
بل إنه كان من أحرص الناس على سلامة قلبه، فكان إذا فرغ من حديثه وأراد أن يقوم قال: "اللهم طهِّر قلوبنا من الشرك والكِبر والنفاق والرياء والسمعة والريبة والشك في دينك، يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك واجعل ديننا الإسلام القيِّم".
ومن هنا يرى الحسن البصري أن أي انحراف في سلوكيات الفرد عن جادة الصواب مرجعه ابتداءً إلى خلل في إيمانه، وعلامة على مرض قلبه، لذلك كان منهج التربية عنده قائم على إصلاح القلوب أولًا.
فيروى العتبى عن أبيه قال: كتب الحسن إلى فرقد أما بعد: "فآني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علَّمك الله، والاستعداد لما وعد الله، مما لا حيلة لأحد في دفعه، ولا ينفع الندم عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الجاهلين، وشمِّر الساق، فإن الدنيا ميدان مسابقة، والغاية الجنة أو النار، فإن لي ولك من الله مقامًا يسألني وإياك فيه عن الحقير والدقيق والجليل والخافي، ولا آمن أن يكون فيما يسألني وإياك عنه وساوس الصدور ولحظ العيون وإصغاء الأسماع وما أعجز عنه".
وعنه قال: "قال لقمان لابنه: يا بني العمل لا يُستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله".
وقال: "يا بني إذا جاءك الشيطان من قِبل الشك والريب فاغلبه باليقين والنصيحة، وإذا جاءك من قبل الكسل والسآمة فاغلبه بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قِبل الرغبة والرهبة فأخبره أن الدنيا مفارقة متروكة".
ومن أقواله: "رأس مال المؤمن دين حيث زال زال معه، لا يخلفه في الرحال ولا يُأتمَن عليه الرجال".
ويُعلِّق على قوله تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] فيقول: "لا تلقى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردتُ بكلمة كذا.. ما أردتُ بأكلة كذا.. ما أردتُ بمجلس كذا، وأما الفاجر فيمضى قُدمًا لا يلوم نفسه".
ويقول أيضًا: "تصبَّروا وتشدَّدوا فإنما هي ليال تُعد، وإنما أنت ركب وقوف، يوشك أن يُدعى أحدكم فيُجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما يصبر على هذا الحق من عرف فضله وعاقبته".
قال مسمع: "لو رأيت الحسن لقلت قد بثّ عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج".
وقال أسباط: "مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح".
وقال أيوب السختيانى: "كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن وأخيرًا يقول: لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من هِمَّته".
ومما زاد من جلال منهج الحسن البصري في التربية أنه تجاوز حدَّ الكلمات المجردة والدعوات الجوفاء، وأخذ على نفسه الالتزام الكامل بكل معالِم هذا المنهج، فقدَّم للناس قدوة عملية أثمرت نجاحه كداعية، فضلًا عن المحبة في قلوب الخلق، فلهجت الألسن بالثناء عليه، وانقادت له الجموع تهتدي على يديه.
فعن خالد بن صفوان قال: "لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: أخبرني عن حسن أهل البصرة قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه وجليسه في مجلس، أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبه قولًا بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد به، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنيًا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك يا خالد، كيف يضل قوم هذا فيهم".
وقال يونس بن عبيد: "لم أر أقرب قولًا من فعل من الحسن".
وقال إبراهيم بن عيسى: "ما رأيت أطول مسألة هيبة له".
وسُئل عطاء عن شيء فقال: "لا أدرى. فقيل إن الحسن يقول كذا وكذا. قال: إنه والله ليس بين جنبي مثل قلب الحسن".
وقال يونس بن عبيد: "كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه".
ومن ثناء معاصريه عليه قول أنس بن مالك رضي الله عنه: "إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن وابن سيرين".
وقال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها".
وكان أبو جعفر الباقر إذ ذكره قال: "ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء".
أما الذهبي في موسوعته (تاريخ الإسلام) فيقول عنه: "مناقبه كثيرة ومحاسنه غزيرة، كان رأسًا في العلم والحديث، إمامًا مجتهدا كثير الإطلاع، رأسًا في القرآن وتفسيره، رأسًا في الوعظ والتذكير، رأسًا في الحلم والعبادة، رأسًا في الزهد والصدق، رأسًا في الفصاحة والبلاغة، رأسًا في الأيد والشجاعة".
طريق الهدى في العلم والعمل
هذه القاعدة تُمثِّل المحور الثاني من محاور التربية عند الحسن البصري، وحقيقتها أنه لا يمكن بلوغ الحق والخير إلا بالعلم النافع ثم بالعمل به، لأن التربية القائمة على الجهل وبغير أسس علمية سليمة تضر بصاحبها أكثر مما تنفعه، وهى أشبه بالسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
وأصل هذه القاعدة قوله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]..
قال الرازي: "وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يُحسِن ويجوز مع هذا الشرط، وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدىً ويقين، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور".
وكعادته في التربية بدأ الحسن البصري الداعية والمربى بنفسه، فكان له من العلم النصيب الوافر الذي أنفق في تحصيله جُل سنوات عمره المباركة، حتى شهد له علماء عصره بالإمامة فيه، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال: "سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا".
وقال بكر المزني: "من سرَّه أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن".
وقال حميد بن عبيد: "قد رأينا الفقهاء، فما رأينا أجمع من الحسن".
وقال أيوب السختيانى: "لو رأيت الحسن لقلت إنك لم تُجالِس فقيها قط".
وقال معاذ بن معاذ. "قلت لأشعث: قد لقيت عطاء، وعندك مسائل أفلا سألته؟ قال: ما لقيت أحدًا -يعني بعد الحسن- إلا صغر في عيني".
وعن الربيع بن أنيس قال: "اختلفت إلى الحسن عشر سنين فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك".
ويقول عنه ابن سعد في (الطبقات) كان الحسن جامِعًا للعلم والعمل، عالِمًا رفيعًا، فقيها ثقة مأمونا عابِدًا زاهِدًا ناسكًا كثير العلم والعمل، فصيحًا جميلًا وسيمًا، وقَدِم مكة، فأُجلِس على سرير، وجلس العلماء حوله، واجتمع الناس إليه فحدَّثهم".
ثم إن الحسن عالِمٌ عامل بعِلمه، قد روَّضه العلم حتى صار من سادة الناس في الأخلاق وكرائم الخصال. قال قتاده: "ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن".
وكان رحمة الله إذا اشترى السلعة بدرهمٍ ينقص دانِقًا كمَّله درهمًا أو بتسعةٍ ونصف كملها عشرة مروءة وكرمًا".
وكان يقول: "لا دين إلا بمروءة".
وباع بغلة له فقال له المشتري: "أما تحط لي شيئًا يا أبا سعيد؟ قال: لك خمسون درهمًا أزيدك؟ قال: لا رضيت بارك الله لك".
وروى يونس أن الحسن أخذ عطاءه، فجعل يُقسمه، فذكر أهله حاجة، فقال: "دونكم بقية العطاء، أما إنه لا خير فيه إن لم يُصنع به هكذا".
ولما تولَّى القضاء كان لا يأخذ عليه راتبًا.
أما عن زهده، فيقول مطر: "دخلنا على الحسن نعوده، فما كان في البيت شيء لا فراش ولا بساط ولا حصير، إلا سرير مرمول هو عليه".
وعن دوره في عملية التربية والتوجيه نجده صاحب همة عظيمة لا تعرف الكَلل ولا المَلل، فعن العوام بن حوشب قال: "ما أشبه الحسن إلا بنبيٍ أقام في قومه ستين عامًا يدعوهم إلى الله تعالى".
وكان طبيب القلوب الذي يُشخِّص الداء ويصف الدواء، ويرصد السلبيات السلوكية في أفراد الأمة التي ترجع إلى خطأ في التربية أساسه ترك العلم أو العمل أو كلاهما.
فتجده يتناول علماء الدنيا الذين جعلوا العلم وسيلة لجمع حطامها الفاني، فعن مالك بن دينار قال: "قلت للحسن: ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا؟ قال: موت القلب".
فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة فعند ذلك ترحَّل عنه بركات العلم ويبقى عليه رسمه، ويروى عنه أنه مر على باب ابن هبيرة الوالي فرأى جموع القُرَّاء وكانوا هم الفقهاء جلوسًا على بابه، فقال: "طفحتم نعالكم وبيضتم ثيابكم ثم أتيتم إلى أبوابهم تسعون". ثم قال لأصحابه: "ما ظنكم بهؤلاء الحذاء؟ ليست مجالسهم من مجالس الأتقياء، وإنما مجالسهم مجالس الشُرط".
وعنه قال: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، لم يأتوا الأمر من قبل أوله، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وما تدبّر آياته إلا أتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأتُ القرآن كله فما أسقط منه حرفًا واحدًا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى له القرآن في خُلقٍ ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نفس، لا والله.. ما هؤلاء بالقُرَّاء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراءة هكذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء".
وعن عمران القصير قال: "سألت الحسن عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا. فقال: وهل رأيت فقيهًا بعينك، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه".
ويتناول أرباب الدنيا الذين لا همّ لأحدهم إلا جيبه وبطنه وفرجه.. فيقول: "إذا شبت لقيت الرجل أبيض حديد اللسان حديد النظر ميِّت القلب والعمل، أنت أبصر به من نفسه، ترى أبدانًا ولا قلوبًا، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة، وأجدب قلوبًا، يأكل أحدهم من غير ماله، ويبكي على عماله، فإذا كهضته البطنة[3] قال: يا جارية ائتني بهاضم، وهل هضمت يا مسكين إلا دينك؟!".
وقال فرقد: "دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد، ألا يعجبك من محمد بن الأهتم؟ فقال: ما له؟ فقلنا: دخلنا عليه آنِفًا وهو يجود بنفسه، فقال انظروا إلى ذاك الصندوق وأومأ إلى صندوق في جانب بيته فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار لم أؤد منها زكاة ولم أصل منها رحمًا ولم يأكل منها محتاج فقلنا: يا أبا عبد الله فلمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان ومكاثرة الأقران وجفوة السلطان". فقال الحسن: "انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه ومكاثرة أقرانه وجفوة سلطانه!؟".
ثم قال: "أيها الوارث لا تُخدعن كما خُدع صويحبك بالأمس، جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعًا منوعًا من باطل جمعه، ومن حق منعه".
ثم قال الحسن: "إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر فيجد ماله في ميزان غيره".
ويتناول المتواكلون ضعاف الهمم فيقول: "إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة ورجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله، وأرجو رحمة الله. وكذب، لو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك".
ويقول: "ابن آدم إنك لن تُصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيبًا إلا وجدت عيبًا آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان هكذا".
ويُبيِّن في موضع آخر قيمة السلوك كميزان حقيقي يوزن به الناس، فيقول: اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم فإن الله عز وجل لم يدع قولًا إلا جعل عليه دليلًا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإن سمعت قولًا حسنًا فرويدًا بصاحبه، فإن وافق قول عملًا فنعم ونعمت عين أخته وأخيه، وإذا خالف قول عملًا فماذا يشبه عليك منه؟ أم ماذا يخفى عليك منه؟ وإيَّاك وإيَّاه لا يخدعنك كما خدع ابن آدم، إن لك قولًا وعملًا فعملك أحق بك من قولك، وإن لك سريرة وعلانية فسريرتك أحق بك من علانيتك، وإن لك عاجلة وعاقبة فعاقبتك أحق بك من عاجلتك".
وفي النهاية يؤكد دور السلوك الطيب كثمرة حتمية للعلم النافع فيقول: "يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك وليشتدن خوفك وليكثرن بكاؤك".
ويقول: "أهينوا هذه الدنيا، فوالله لأهنأ ما تكون إذا أهنتموها".
كما يجعل الإسلام والسلوك متلازمان في شخصية المسلم فيقول: "من علامات المسلم قوة في دين، وحزم في لين، وحكم في علم، وحبس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة، وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورُّع في رغبه، وتعفُّف وصبر في شدة، لا تُرديه رغبته ولا يُبدرِه لسانه ولا يسبقه بصدره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه ولا يستخفه حرصه ولا تقصر به نيته".
ومع كل هذا الحرص على تقدير دور السلوك وأهميته، يرفض هذا العالم الرباني كل محاولات الإفراط السلوكي تحت دعوى التعمُّق في الدين، ويرى ذلك تشدُّد وتنطُّعٌ لا خير فيه.
فعن عمارة بن مهران قال: "كنت عند الحسن وهو يأكل خبيصًا فدخل علينا فرقد، فقال الحسن: تعال فكل. فقال: أخاف أن ألا أؤدي شكره. قال الحسن: ويحك وتؤدى شكر الماء البارد".
بل إنه يرفض الغلو في منهج الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى يوصله إلى حمل السيف على أخيه المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح الجامع: [5077] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما).
وقال صلى الله عليه وسلم: « » (متفقٌ عليه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه).
فلما كانت فتنه ابن الأشعث الذي قاتل الحجاج، انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في طائفة، فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتل هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟ قال: "أرى أن لا تُقاتِلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله، وعليكم بالسكينة والتضرُّع"، فخرجوا وهم يقولون: نطرح هذا العلج. وخرجوا مع ابن الأشعث فقُتِلوا جميعًا.
وقد قيل لأبن الأشعث إن سرَّك أن يُقتَلوا حولك كما قُتِلوا حول جمل عائشة فأخرج الحسن، فأرسل إليه فأكرهه على الخروج، قال ابن عون: فنظرت إليه بين الجسرين عليه عمامة سوداء فغفلوا عنه، فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ.
وهكذا قَدَّم الحسن البصري للأجيال منهج تربوي يتمتع بالتكامل والأصالة، أضاء للسابقين طريقهم.
فهل للحاضرين أن يقتبسوا من هذا النور؟!
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمصادر:
[1]- (الدثور للقلوب: امحاء الذكر منها).
[2]- (واقرعوا: انهروها وأبعدوها عن الفحش).
[3]- (البطنة: امتلاء البطن بالطعام حتى لا يطيق النفس).
- (البداية والنهاية/ ابن كثير).
- (صفة الصفوة/ ابن الجوزي).
- (الطبقات الكبرى/ ابن سعد).
- (تاريخ الإسلام/ الذهبي).
- (صور من حياة التابعين/ د.عبد الرحمن رأفت الباشا).