(12) تفصيل الدعاء أو تعليله
إبراهيم بن محمد الحقيل
في بعض آي الدعاء في القرآن الكريم وصفٌ للمدعو به، أو وصف لحال الداعي، أو تعليل لسبب الدعوة، أو ذكر لنعم الله تعالى على الداعي في مقدمة دعوته، أو ذكر لنعمه سبحانه على المدعو عليه. فهل يأتي الداعي بأدعية القرآن بالدعاء وسببه أو تفصيله أو تعليله، أم يقتصر على الدعاء فقط؟ وهل يكون ذلك دليلاً على مثله من الأدعية؟!
- التصنيفات: الذكر والدعاء -
في بعض آي الدعاء في القرآن الكريم وصفٌ للمدعو به، أو وصف لحال الداعي، أو تعليل لسبب الدعوة، أو ذكر لنعم الله تعالى على الداعي في مقدمة دعوته، أو ذكر لنعمه سبحانه على المدعو عليه. فهل يأتي الداعي بأدعية القرآن بالدعاء وسببه أو تفصيله أو تعليله، أم يقتصر على الدعاء فقط؟ وهل يكون ذلك دليلاً على مثله من الأدعية؟!
وقد جاء ذلك في عدد من الآيات القرآنية في مواضع عدة من دعاء الرسل عليهم السلام، ومما وقفت عليه منها:
الموضع الأول:قول الله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114]، فعلل المسيح عليه السلام طلب المائدة بأن تكون عيدًا لهم، لأولهم وآخرهم، أي:يتخذون يوم نزولها عيدًا، وأيضًا تكون آية، {وَآيَةً مِنْكَ} أي:دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك. (تفسير ابن كثير:3/ 225).
الموضع الثاني: قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، فموسى عليه السلام صدَّر دعوته بنعم الله تعالى على فرعون وملئه بالزينة والأموال التي كانت سببًا في ضلالهم لما لم يشكروا الله تعالى، وإنما ذكر موسى عليه السلام ذلك تمهيدًا للدعاء عليهم بالطمس على أموالهم، والشد على قلوبهم، وعلل دعوته بأنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
الموضع الثالث: قوله تعالى إخبارًا عن الخليل عليه السلام أنه دعا فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فعلل الخليل عليه السلام إسكان ذريته مكة بإقام الصلاة، وسأل الله تعالى إقبال الناس إليهم، وتتابع الرزق عليهم.
قال القرطبي: "واللام في {لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} لام كي، هذا هو الظاهر فيها، وتكون متعلقة بـ(أسكنت)" (تفسير القرطبي:9/ 371)، وقال النسفي رحمه الله تعالى: "أي:ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك" (2/176).
الموضع الرابع: قول موسى عليه السلام لما أمره الله تعالى بدعوة فرعون كما حكى الله تعالى عنه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:25-32]، وفي موضع آخر قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ . وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ . وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:12-14]، وفي موضع ثالث قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ . وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:33-34].
ففي كل المواضع الثلاثة علل موسى عليه السلام دعوته ببعثة أخيه هارون معه لدعوة فرعون بأنه خاف أن يكذبه فرعون وأن يقتله، وطلب أن يشد الله تعالى أزره بأخيه هارون لأنه أفصح منه...ألخ، والله تعالى يعلم حال موسى وهارون عليهما السلام، ويعلم صلف فرعون وعناده وجبروته، ومع ذلك فصَّل موسى في دعوته؛ لأن في هذا التفصيل بيان حالة الافتقار والاضطرار التي هو عليها، وهذا أدعى للإجابة.
الموضع الخامس: قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:4-6]، ففصل زكريا عليه السلام حاله التي تدل على الفاقة لله تعالى والافتقار إليه سبحانه من كبر السن وشيب الرأس، ووهن العظم، وعقم زوجته.
قال النسفي رحمه الله تعالى: "هذا تفسير الدعاء.. وخص العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن" (2/325)، ثم ذكر عليه السلام بعد هذه المقدمة التي تدل على ضعف حاله مسألته وهي طلب الولد، وبين علة ذلك، وهي أن يبقى ذكره وأن يرث دينه؛ خوفا من تبديل بني إسرائيل له.
قال البغوي رحمه الله تعالى: "والمعنى: أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما كان يشاهده من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء، فسأل ربه ولدًا صالحًا يأمنه على أمته، ويرث نبوته وعلمه؛ لئلا يضيع الدين" (3/226)، وقد استفيد من دعاء زكريا عليه السلام أنه ينبغي للداعي أن يذكر عوائد الله تعالى معه، ونعمه عليه؛ لأن زكريا فعل ذلك، وذكر أنه لم يكن في دعائه شقيًا، أي: أن الله تعالى قد عوده استجابة دعائه.
قال القرطبي رحمه الله تعالى قال العلماء: "يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع، لأن قوله تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] إظهار للخضوع. وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته.. أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، أي: إنك عودتني الإجابة فيما مضى، يقال: شقي بكذا، أي: تعب فيه ولم يحصل مقصوده.. وهذه وسيلة حسنة، أن يتشفع إليه بنعمه، ويستدر فضله بفضله، يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله، فقال له حاتم: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنت إليه عام أول، فقال: مرحبًا بمن تشفع إلينا بنا" (11/78-80).
وقال ابن عاشور تعليقًا على ذكر زكريا لوهن عظمه وشيب رأسه: "وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: فهب لي من لدنك وليًا، وإنما كان ذلك تمهيدًا لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد، والله يجيب المضطر إذا دعاه، فليس سؤاله الولد سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر، ووصف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالاً ومئالاً، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالاً مقتضيًا للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة" (16/63).
الآية الخامسة: "قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا . إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65-66]، فَوَصْفُ عذاب جهنم بأنه كان {غرامًا} و{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، يحتمل أنه من مقول عباد الرحمن الذين أثنى الله تعالى عليهم، وحينئذ فإن الداعي يأتي به في دعوته؛ لأنه منها، ويحتمل أنه من كلام الله تعالى، أي: أنهم دعوا بصرف عذاب جهنم عنهم، فبين الله تعالى أن عذابها هذا شأنه، وهذا وصفه في الشدة والإيلام.
وقد ذكر الاحتمالين بلا ترجيح النسفي وابن عاشور:
قال النسفي: "ويصح أن يكون التعليلان متداخلين ومترادفين وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم" (2/548)، وقال ابن عاشور: "جملة {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى معترضة بين اسمي الموصول" (19/71).
بينما يرى القرطبي والسعدي أنه من تتمة دعائهم:
قال القرطبي: "أي: إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح" (13/72)، وقال السعدي: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وهذا منهم على وجه التضرع لربهم، وبيان شدة حاجتهم إليه وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، وليتذكروا منة الله عليهم، فإن صرف الشدة بحسب شدتها وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها" (586).
والثمرة من ذلك: أنه إن كان من دعائهم جاز أن يقوله الداعي في السجود، وإن لم يكن من دعائهم فلا يجوز أن يقوله في السجود؛ لأنه قرآن، والمصلي منهي عن قراءة القرآن في السجود، ويبنى عليه مسألة أخرى وهي: أنه يجوز ذكر وصف المدعو به في الدعاء، ولا يعد ذلك من التعدي في الدعاء، كوصف الموت والبعث والحساب والجنة والنار ونحو ذلك.
ويشكل على ذلك:
1- حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ»" (رواه أبو داود:96، وسنده منقطع، وحكم عليه مخرجو المسند بأنه حسن لغيره:16796).
2- وحديث ابْنٍ لِسَعْد بن أبي وقاص، أَنَّهُ قَالَ: "سَمِعَنِي أَبِي، وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا، وَكَذَا، وَكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَسَلَاسِلِهَا، وَأَغْلَالِهَا، وَكَذَا، وَكَذَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ»" (رواه أبو داود:1558، وقال الألباني: حسن صحيح، وقال مخرجو المسند: حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف).
ولو صح الحديثان فسبيل الجمع أن يقال: الوصف القليل لا بأس به كما جاء في القرآن، وإنما التعدي في الكلام الكثير الذي لا فائدة منه؛ فإن العلل والأوصاف التي جاءت في الدعوات القرآنية كانت بجمل يسيرة، ويتفرع عن هذا مسألة أخرى وهي: هل للداعي أن يسأل الله تعالى كل حاجاته ولو صغرت، أم لا يسأل إلا الأشياء الكبيرة فقط؟
الظاهر من النصوص أن الداعي يسأل الله تعالى حاجاته كلها، وإن كانت صغيرة، فإن الله تعالى يحب كثرة المسائل، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن هذه مسائل كثيرة فلا يمنع منها، وإنما يمنع من أوصاف كثيرة لمسألة واحدة، ويعد تعديا.
وأما الأدلة على أن للداعي أن يسأل الله تعالى كل حاجته وإن صغرت، فمنها:
1- قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:201-202]، فأثنى الله تعالى عليهم بسؤالهم حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، وبين أنه يستجيب لهم، ومعلوم أن الدنيا كلها وما كبر منها ليست شيئًا أمام الآخرة؛ ولذا كانت لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة، وكان متاعها بالنسبة للآخرة قليل، ومع ذلك أثني على من سأل حسنتها مع حسنة الآخرة.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» (رواه أبو داود:5090)، فسأل الله تعالى أن يصلح له شأنه كله، ومن شأنه ما يكون صغيرًا حقيرًا.
3- قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: "إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ»" (رواه الترمذي:3573، وقال: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ).
والحجة فيه أنه نكَّر الدعوة فتشمل كل دعوة سواء كانت في شأن كبير أم صغير، جليل أم حقير. وأيضًا: أفاد أن الله تعالى يحب كثرة الدعاء، ويستجيب أكثر، وكثرة الدعاء سبب لكثرة المسائل في الغالب، وكثرة المسائل تأتي على الكبير والصغير، والجليل والحقير.
4- قول الله تعالى في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ... يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» (رواه مسلم:2577).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "وفي الحديث دليلٌ على أنَّ اللهَ يحبُّ أنْ يسأله العبادُ جميعَ مصالح دينهم ودنياهم، مِنَ الطَّعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية والمغفرة.. وكان بعضُ السَّلف يسأل الله في صلاته كلَّ حوائجه حتّى ملحَ عجينه وعلفَ شاته.. فإنَّ كلَّ ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهرَ حاجتَه فيه، وافتقاره إلى الله، وذلك يحبُّه الله، وكان بعضُ السَّلف يستحيي من الله أنْ يسأله شيئاً من مصالح الدنيا، والاقتداءُ بالسُّنَّة أولى" (جامع العلوم والحكم:2/662).
قالت عائشة رضي الله عنها: "سلوا الله كل شيء حتى الشسع، فإن الله عز وجل، إن لم ييسره لم يتيسر" (رواه ابن السني:349)، وقال عروة بن الزبير: "إني أسأل الله في صلاتي حتى أسأله الملح إلى أهلي" (فيض القدير:4/ 110)، ولو كان سؤاله لحاجاته داخل الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو» (رواه:البخاري:835 ومسلم:402). وقد سبق بيانه في مقالة سابقة.
قال الشيخ ابن عثيمين متعقبًا صاحب الزاد: "وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يدعو بغير ما وَرَدَ.. فلا يدعو بشيء مِن أمور الدُّنيا مثل أن يقول: اللَّهُمَّ ارزقني بيتاً واسعاً، أو اللَّهُمَّ ارزقني زوجة جميلة، أو اللَّهُمَّ ارزقني مالاً كثيراً، أو اللَّهُمَّ ارزقني سيارة مريحة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا يتعلَّق بأمور الدُّنيا، حتى قال بعض الفقهاء رحمهم الله: لو دعا بشيء مما يتعلَّق بأمور الدنيا بطلت صلاتُه، لكن هذا قول ضعيف بلا شَكٍّ، والصحيح أنه لا بأس أن يدعو بشيء يتعلَّق بأمور الدُّنيا؛ وذلك لأن الدُّعاء نفسه عبادة؛ ولو كان بأمور الدنيا، وليس للإنسان ملجأ إلا الله" (الشرح الممتع:3/ 205-206).
فتحصل مما سبق عرضه ما يلي:
1- أنه ينبغي أن يصدر الداعي لنفسه دعوته بذكر ضعفه وعجزه وافتقاره إلى الله تعالى، وتعداد نعمه سبحانه عليه، وعوائده عز وجل معه؛ كما في دعوة زكريا عليه السلام.
2- ينبغي أن يصدر الداعي دعوته على كافر أو ظالم بما أنعم الله تعالى على ذلك الكافر أو الظالم من نعم فلم يشكرها، كما في دعوة موسى وهارون على فرعون.
3- يجوز أن يعلل الداعي طلبه ولو كان الله تعالى يعلم علة طلبه؛ وذلك مثل تعليل الخليل وزكريا وعيسى عليهم السلام دعواتهم.
4- يجوز أن يذكر الداعي شيئًا من أوصاف ما يدعو به؛ لتعظيمه في نفسه، وبيان شدة حاجته إليه؛ كما في التعوذ من النار وذكر سوء مستقرها. ولا يطنب في الوصف بل يكون يسيرًا؛ لأنه الوارد في القرآن، والوصف الكثير نهى عنه الصحابة رضي الله عنهم.
5- يجوز أن يسأل العبد ربه سبحانه كل حاجاته، ما كبر منها وما صغر، وما جلَّ وما حقر، وما كثر وما قل، داخل الصلاة وخارجها؛ كما دلت على ذلك السنة النبوية وفعل السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
6- يجوز أن يذكر العبد في دعوته وصفا يحتاجه فيما يسأل؛ كأن يقول: هب لي زوجة جميلة تعفني، أو غنية تكفيني، أو ولدًا صالحًا يعينني..؛ لأن الخليل عليه السلام قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصَّفات:100]، وقال زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] وقال أيضًا: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6].
7- ينبغي للداعي أن يذيل مسألته بما يناسبها من الثناء على الله تعالى وذكر صفاته؛ كما ذيل الخليل وزكريا عليهما السلام دعوتيهما بقولهما: إنك سميع الدعاء، وذيل موسى عليه السلام دعوته بقوله:إنك كنت بنا بصيرًا، وذيل المسيح عليه السلام دعوته بقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
8- إذا دعا بدعاء قرآني فله أن يذكر ما في الدعوة من علل وأسباب وتفصيلات داخل الصلاة وخارجها، وفي السجود وغيره؛ لأنه يدعو ولا يقرأ، لكن بشرط أن تكون مناسبة لحاله، فلا يدعو شاب قوي يريد الولد بدعوة زكريا عليه السلام فيصدرها قائلاً: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، وهو لم يهن عظمه ولم يشب رأسه، وإنما يقتصر على الدعوة فيقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}، أو يدعو بدعوته الثانية: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}.