إذا ابتليت فسل الله الصبر والثبات

أبو الهيثم محمد درويش

  • التصنيفات: الزهد والرقائق - التاريخ والقصص - تزكية النفس - الحث على الطاعات -

ما أجمل العافية.. وما أحسن الإلحاح على الله سبحانه في طلب العافية ودوامها والشكر عليها.

جاء في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا».

ولكن إذا ما قدَّر الله الابتلاء وهو من سُننه في اختبار عباده فهنا عليك بالركون إليه واللجوء إلى حوله والتزام الدعاء فلا قوة لنا إلا به في جميع أمورنا وخاصةً الشدائد.

يقول الشيخ المنجد حفظه الله عن سنة الابتلاء

"يقول الله سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3]، فهذه سورة العنكبوت تُسمَّى سورة الابتلاء والامتحان..

يقول ابن القيم رحمه الله: "ذكر سبحانه -أي في هذه السورة- ابتلاء نوح بقومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وابتلاء قومه بطاعته فكذبوه فابتلاهم بالغرق، ثم بعده بالخرق، ثم ذكر ابتلاء إبراهيم بقومه وما ردوا عليه وابتلاهم بطاعته ومتابعته، ثم ذكر ابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به وما صار إليه أمره وأمرهم، ثم ذكر ابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به وما انتهت إليه حالهم وحاله، ثم ذكر ما ابتلى به عادًا وثمود وقارون وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان به وعبادته وحده، ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات..

ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنواع الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وأمره أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة فيعبدونه فيها، ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرضٍ إلى أرض، وأخبرهم أن مرجعهم إليه فلا قرار لهم في هذه الدار دون لقائه..

ثم بيَّن لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه بأنه يبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فسلَّاهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله وكانت مباء لهم بأن بوأهم دارًا أحسن منها، وأجمع لكل خير ولذة ونعيم مع خلود الأبد، وأن ذلك بصبرهم على الابتلاء وتوكلهم على ربهم، ثم أخبرهم بأنه ضامن لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم في أرضهم فلا يهتموا بحمل الرزق، فكم من دابة سافرت من مكان إلى مكان لا تحمل رزقها!

ثم أخبرهم أن مدة الابتلاء والامتحان في هذه الدار قصيرةً جدًا بالنسبة إلى دار الحيوان والبقاء، ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل الابتلاء ممن لم يؤمن به، وأن مقامهم في هذه الدار تمتع وسوف يعلمون عند النقلة منها ما فاتهم من النعيم المقيم وما حصلوا عليه من العذاب الأليم، وذكر عاقبة أهل الابتلاء ممن آمن به وأطاع رسله وجاهد نفسه وعدوه في دار الابتلاء ما به هاديه وناصره، فأخبر سبحانه أن أجلّ عطاه وأفضله في الدنيا والآخرة هو لأهل الابتلاء الذين صبروا على ابتلائه، وتوكلوا عليه..

وأخبر أن أعظم عذابه وأشقه هو للذين لم يصبروا على ابتلائه وفرُّوا منه وآثروا النعيم العاجل عليه..

فمضمون هذه السورة هو سِرُّ الخلق والأمر، فإنها سورة الابتلاء والامتحان، وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة، ومن تأمَّل فاتحتها ووسطها وخاتمها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان ووسطه صبر وتوكل وآخره هداية ونصر والله المستعان" (شفاء العليل، ص: [247]).

وهذه السنة ثابتة غير متغيِّرة؛ فهذا ورقة بن نوفل الذي كان لديه علم بما عند أهل الكتاب يقول للنبي صلى الله عليه وسلم بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة كما أخرج ذلك البخاري: "يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك"، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في تعجُّبٍ: «أَوَ مخرجي هم؟!». قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".

وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان كما في البخاري: "سألتك كيف كان قتالكم إِيَّاه، فزعمت أن الحرب سِجال ودُول، فكذلك الرسل: تُبتلى، ثم تكون لهم العاقبة"..

وجاء في الحديث الصحيح الذي (أخرجه مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشًا، فقلت: ربي، إذًا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استَخْرِجْهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك».

فالابتلاء وسيلة هامة لتمييز الصفوف، وتمحيص القلوب، ومعرفة المؤمن الصادق من المنافق المخادع، والعدو من الصديق، كما قال بعضهم:

جزى الله الشدائد كل خيرٍ *** وإن كانت تُغصِّصني بريقي
وما حبي لها إلا لأني *** عرفتُ بها عدوي من صديقي

فالصادق والكاذب لا يُعرفون إلا في وقت الشِدَّة والمحنة والابتلاء، ويشهد لذلك قصة الملأ من بني إسرائيل كما في سورة البقرة فلم يثبت منهم إلا فئة قليلة من الذين كان إيمانهم راسخًا ثابتًا في قلوبهم فلم يتزلزلوا ولم يتضعضعوا، بل قالوا كما حكى الله عنهم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة من الآية:249]..

وقد بيَّن ذلك الأستاذ محمد قطب فضرب لذلك مثلًا فقال: "أرأيت لو أنّ قائدًا أراد إعداد جنوده للفوز في معركة صعبة ضارية، أيكون من الرحمة بهم أن يُخفِّف لهم التدريب، ويُهوِّن لهم الإعداد، أم تكون الرحمة الحقيقية بهم أن يُشدِّد عليهم في التدريب، على قدر ما تقتضيه المعركة الضارية التي يُعدِّهم من أجلها؟ والمؤمنون هم حزب الله وجنوده ولله المثل الأعلى والمعركة التي يُعدّهم من أجلها هي المعركة العظمى: معركة الحق والباطل، التي ينصر فيها الله الحق على يد أولئك الجنود حسبما اقتضت مشيئته وجرت سنته" (حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص: [111] لمحمد قطب).

السنة الثانية: التمحيص، وهذه السنة تعتبر نتيجة مترتبة على سنة الابتلاء وفائدة لها؛ فيمحص الله بالابتلاء ما في الصدور، ويخرج ما في القلوب؛ كما قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران من الآية:154]، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران من الآية:179]..

قال ابن القيم رحمه الله: "ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد" (زاد المعاد: [3/196]). أهـ كلام الشيخ المنجد حفظه الله (موقع إمام المسجد).
 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام