معرفة الله

ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله: العقل، الأمور العقلية فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله بالنظر إلى ذاته، هذا إذا كان القلب سليمًا من الشبهات، فينظر إلى ما بالناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم، وعلى رحمته فلولاه ما وجدت. وينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45].

  • التصنيفات: التوحيد وأنواعه -

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:


معرفة الله قسمان:

1- معرفة وجود ومعاني، وهذا هو المطلوب منا.

2- ومعرفة كنه وحقيقة، وهذا غير مطلوب منا لأنه مستحيل.

يعني: لو قال قائل: تعرف الله، مثلا: تعرف حقيقة ذاته وحقيقة صفاته؟ لكان الجواب: لا، لا نعلم ذلك وليس مطلوب منا، والوصول إلى ذلك مستحيل، فالمطلوب إذن معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني، أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فصار قول المؤلف في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد.

قوله: (أول واجب على العبيد) أول واجب على الإنسان أن يعرف الله، وقالوا: المراد أول واجب لذاته، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله، فالعلماء قالوا: أول ما يجب على الإنسان أن ينظر فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة فيكون النظر أول واجب لغيره، والمعرفة أول واجب لذاته.

وقال بعض أهل العلم: إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته، لأن معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة، والإنسان مجبول عليها ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر أو يفكر، قالوا: ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ إلا يولَدُ على الفِطرَةِ» (رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658))، وقوله سبحانه في الحديث القدسي: «وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم» (رواه مسلم (2865))، فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على فطرة سليمة، فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله.

وحينئذ تكون عبادته لله، إذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين: وهما الفطرة والبيئة، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه» (رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658))، إذن معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل، ولهذا عوام المسلمين الآن هل هم فكروا ونظروا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله؟ أم عرفوه بمقتضى الفطرة؟ -ولا شك أن للبيئة تأثيراً- ما نظروا، بل إن بعض الناس والعياذ بالله إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون» (رواه مسلم (2670)).

فالصحيح: إذن ما قاله المؤلف أن (أول واجب معرفة الله)، أما النظر: فلا نقول: إنه واجب، نعم لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف يحتاج إلى التقوية فحينئذ لا بد أن ينظر، ولهذا قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفًا حينئذٍ يجب أن ينظر، لكن لا ينظر هذا الناظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات، لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك يورد عليه الشيطان من الإيرادات ما يجعله يقف حيران، ولكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة، فمثلاً: نظر إلى الشمس هذا المخلوق الكبير الوهاج لا يقول من الذي خلقه؟ خلقه الله عز وجل، فيقول: من الذي خلق الله؟ لا، يقول خلقه الله ويسكت، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله؟ لنقطع التسلسل. الحاصل: أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا للضرورة كالدواء لضعف الإيمان وإلا فمعرفة الله مركوزة بالفطر.

وقول المؤلف: (معرفة الإله بالتسديد) أي بالصواب، لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل؟

الطريق: قلنا بالفطرة قبل كل شيء، فالإنسان مفطور على معرفة ربه تعالى وأن له خالق، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق على التفصيل ولكن يعرف أن له خالقًا كاملاً من كل وجه.

ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله: العقل، الأمور العقلية فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله بالنظر إلى ذاته، هذا إذا كان القلب سليمًا من الشبهات، فينظر إلى ما بالناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم، وعلى رحمته فلولاه ما وجدت. وينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، لأن أكثر الناس على الكفر، فلو أراد الله أن يؤاخذه -أن يؤاخذهم على أعمالهم- ما ترك على ظهرها من دابة، ننظر في السماوات والأرض فنستدل به على عظم الله فإن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق، وهكذا، نعرف الله تعالى بإجابة الدعاء، فنعرف بهذا وجود الله وقدرته ورحمته وصدقه عز وجل {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

أخذ الله للكافرين بالنكبات والهزائم يدل على أن الله شديد العقاب، وأنه من المجرمين منتقم، ونصر الله لأوليائه تدل على أن الله ينصر من شاء.

كما أنه يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات، وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:

- أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]؛ فإنا نرى أجسامًا جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعًا أن هاهنا موجدًا للحياة, ومنعمًا بها وهو الله تبارك وتعالى، وأما السماوات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.

- وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلاً مخترعًا له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.

وكذلك كان واجبًا على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، وكذلك أيضًا من تتبع معنى الحكمة في موجود أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليل الشرع.

وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة، فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى، إذا تصفحت وجدتها على ثلاث أنواع:

- إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعًا.

فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فمثل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} إلى قوله {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 16]، ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} إلى قوله {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61]، ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، ومثل هذا في القرآن كثير.

- وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 6]، ومثل قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

- فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضًا، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّـهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22] فإن قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء} تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33]، وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}ِ [آل عمران: 191]. وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الدلالة.

فهذه الدلالة هي الصراط المستقيم الذي دعا الله تعالى الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده طاعة الله في الإيمان به، وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].

فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص، وأعني بالخواص العلماء، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة.

وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجوداً، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها، ولاشك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته.

المصدر: الدرر السنية: الموسوعة العقدية