(4) نمط الدرويش

محمد علي يوسف

أقصد به نمط المتدين المتقوقع على نفسه المنعزل عن واقعه بشكلٍ تام، فلا يعني بأمور المسلمين ولا يعرف شيئًا عن مآسيهم ولا يهتم بمشاكلهم وكأنه لا يعيش معهم في نفس الكوكب..!

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -

ولستُ أعني بالدروشة -هنا- ذلك الاستعمال الدارج الذي يتندَّر به البعض على من لم يؤتوا قدرًا من الفطنة فكانوا على درجة من السذاجة غير المتكلفة لا يملكون غيرها ولا يقدرون على سواها..

ولا أعني بالدروشة -أيضًا- تلك الدرجة من درجات الترقي في التطور الروحي لدى المتصوفة، ممن اتخذوا باب التسول والتقشف لتكلف الزهد والتواضع والابتعاد عن التملك المادي، ولقد سبق أن ناقشت تلك الظاهرة في نمط  الأخ المتزهد..

لكنني أقصد به نمط المتدين المتقوقع على نفسه المنعزل عن واقعه بشكلٍ تام، فلا يعني بأمور المسلمين ولا يعرف شيئًا عن مآسيهم ولا يهتم بمشاكلهم وكأنه لا يعيش معهم في نفس الكوكب..!

نمط يستريح للسذاجة ويتكلفها ويأوي إلى الخواء الفكري ويختاره ويهرب من المعرفة والفهم.. ليرى الناس كلهم طيبين وحلوين وعلى خير ولا توجد عنده قضايا أو مواطن مفاصلة تستحق أن يكون له فيها موقف لا فارق يذكر عنده بين حق وباطل، ولا صواب أو خطأ فهو لا يدري -قاصدًا- ما يحدث من حوله وما يحاك بأمته ويمكر لدينه إنه نمط يكاد على كثرة تلاوته للقرآن يعطل آيات المفاصلة ويبتعد تمامًا عن مدلول آيات مكر الماكرين وكيد الخائنين، وإفساد المضلين أو على أحسن تقدير يعرف مدلولات ومعاني تلك الآيات المحكمات..

لكنه يظن أن ليس له شأن بها وأنه غير مكلَّف أو مخاطب بتكليفاتها! فما عليه إلا المكث في محرابه والتبتل بعباداته وأوراده والنصر سيأتيه بغير بذل ولا تعب! والرزق سينهمر عليه من السماء مع المطر وينسى أو يتناسى أن في نفس القرآن الذي يقرأه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}[1]، و{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[2]، و{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[3].

ويغفل أو يتغافل عن أسباب تنزل الفتح وظهور الحق وأهله والنماذج الجلية في كتاب الله لأقوام لم يكتفوا بالتعبد ولم يركنوا إلى المحاريب مقصرين في واجب الأخذ بالأسباب {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}..

يتغافل صاحبنا الدرويش عن كل ذلك ويتناسى أن المؤمن كيِّس فطن وأنه ليس بالخب وليس الخب يخدعه، ويفعل كل ذلك بحجة التفرغ للعبادة والتنسك ويكأن الذي تعبده بالصلوات والأذكار والدعاء.. لم يكلفه بالعمل والمجاهدة والمصابرة والبذل أو أنه خلقه بمعزلٍ عن مخالطة باقي المخلوقين، ولم يختبره ويبتليه بمعاملتهم والتأثر والتأثير فيهم وأين ذلك من منهج أتقى الخلق لله وأشدهم له خشية وأكثرهم عبادة..

لقد كان أفضل الصيام صيام نبي الله داود عليه السلام، وكان أفضل القيام قيامه بشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم وكان تسبيحه وذكره آية يردد الكون معه همساتها ويأوب، ورغم كل هذه العبادات المبهرة كان حاكمًا قويًا عادلًا وكان قاضيًا يفصل بين المتخاصمين، وكان مجاهدًا بطلًا قتل جالوت رأس الجبارين، وكان نبيًا داعيًا للتوحيد معلمًا الناس الخير وإلى جوار كل ما سبق كان صانعًا يأكل من عمل يده، هل عطَّلته العبادة عن هذا التوازن البديع الذي يدحض شبهات الدراويش وحججهم..

وأين تلك الشبهات الانعزالية من نهج نبينا عليه أزكى الصلوات والتسليمات وهو الذي ما ادخر وسعًا في العمل والدعوة والجهاد، ورغم ذلك كان أعبد الناس وأخشعهم لم يمنعه القيام والصيام والدعاء والتبتل من الاعتناء بأمر أمته، ومعالجة مشاكلها والأخذ بالأسباب المادية المتوفرة لذلك، ثم كان التوكل تجده غشية غزوة بدر مستيقظًا داعيًا باكيًا مستغيثًا مبتهلًا، فإذا أشرق الصبح وكان اللقاء واشتد البأس وجدته في الصفوف الأولى يحتمي به أصحابه بين غبار ساحات الوغى، فإذا جنَّ الليل من جديد آوى إلى محرابه يذرف دمع الخشية ويحويه همس مناجاة السحر واستغفار الغفار..

هكذا كان وهكذا كان الأنبياء من قبله وبذلك خوطبوا: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]..

كان هذا هو الأمر الأول لموسى من ربه بعد أن عرفه بنفسه وأعلمه بأنه الإله الواحد الذي لا معبود بحق إلا هو فاعبدني..

تلك هي الثمرة الأولى للمعرفة والتكليف الأول بعد التوحيد والعلم بالله {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}..

عبادة وصلاة وذكر يربى بهم المصلح ابتداءً كما قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} وذلك بعد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].

جهِّز نفسك يا حامل الرسالة يا من عرفت ربك..

جهِّز نفسك بالعبادة والذكر..

بالتبتل والتهجد والانكسار في محراب العبودية..

فإن فعلت فهيا إلى الثمرة الأخرى لاعتقادك وعلمك بالله وعبادتك إياه..

هيَّا إلى التكليف التالي مباشرة بل يكاد يكون التكليف الموازي المرافق لعبادتك ومعرفتك..

هيَّا اذهب وتحرَّك..

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}..

اذهب واصدع بكلمة الحق..

اذهب وقلها في وجه الطاغية..

اذهب وأعلنها وادع لربك بقولٍ لينٍ لعله يتذكَّر أو يخشى..

{قُمْ فَأَنذِرْ} كما تقوم الليل..

قم واصدع فإن اعتقادك ومعرفتك بربك وسبيلك ليست بسبيل عزلة، ولا بسبيل خوف وهروب وذلة..

قم فإنها سبيل عِزَّة وقيام وعمل..

وما بين {قُمِ اللَّيْلَ} و {فَاعْبُدْنِي} وبين {قُمْ فَأَنذِرْ} و{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} يصح سيرك في دربك وتثمر معرفتك بربك..

أما الركون للعزلة الاختيارية والتقوقع على الذات بحجة التعبد والتنسك فتلك رهبانية لا نعرفها في ملتنا، وما كتبها الله علينا وما هي في أغلب الأحيان إلا دروشة هروبية، يلجأ إليها أصحاب هذا النمط الذي لو عم الأمة ما أحق حق، ولا أبطل باطل وما عرف معروف ولا أنكر منكر، وما كان من تغيير أو تقدم للأفضل..

إنه نمط الدرويش..

ــــــــــــــــــــــــ

[1]- [الحج من الآية:40].

[2]- [محمد من الآية:7].

[3]- [الملك من الآية:15].

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام