إعمال العقول فيما نسمع أو نقول (2)

محسن العزازي

أما آن لك أن تعقل فيما تقول أو تسمع، فكم من مقال كذوب قرأته، وكم من فضائيات الخنع شاهدت، وكم من افتراءات الأفاكين سمعت، وتعلم الموت فيها وترضى! عجبت منك أيها الإنسان

  • التصنيفات: تزكية النفس -

الحث على إعمال العقل

ذُكر العقل في نحو تسعة وأربعين موضعًا في الكتاب العزيز[33] تأكيدًا على أهمية إعماله والتدبر به، منها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] إذ ذُكرت عبارة {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بعد الحث على التفكر والنظر في المصنوعات والمخلوقات لمعرفة الصانع والخالق سبحانه وتعالى.

بل إن العقيدة الإسلامية تدعو العقل إلى تشغيل طاقاته وتستثيره ليؤدي دوره الذي خلقه الله من أجله وتنبهه ليتدبر ويتفكر وينظر ويتأمل ويتفقه؛ مدللة بذلك على أن الدعوة إلى الإيمان قامت على الإقناع العقلي.
ويبدوا هذا واضحا في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم تكررت عشرات المرات في السياق القرآني، مثل قوله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة من الآية:73]، وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]َ، وقوله عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:98]، وقوله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، وقوله سبحانه وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وغير ذلك من الآيات لتى لا يمكن حصرها في مكان واحد.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعيدُ الكلمة ثلاثاً، لتُعقَل عنه، أي لتفهم عنه ويُدركَ معناها.

ذم إهمال العقل

وقد ذم القرآن أقواما أهملوا العقل وانساقوا وراء أهواءهم واتبعوا طريق شهواتهم. قال تعالى ذاكراً قول الكافرين يوم القيامة: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، فهؤلاء لم يستعملوا عقولهم، ففاتهم معرفة الحق، ونتج عن ذلك أن تكون حياتهم وأهواءهم وأعمالهم كلها خاطئة خاسرة.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، فهؤلاء وصفوا بأنهم لا يعقلون لأنهم لا يستعملون عقولهم فيما يجب أن تدركه وتعرفه.
كما أن القرآن الكريم ذم الكفار في موضع آخر لأنهم لم يستعملوا عقولهم، فقال عنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة من الآية:171]، وشبّه من لا يستعمل عقله ويعمل به بـ (شرِّ الدواب)، في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، بل صورهم القرآن بأنهم أضل من الحيوان {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، ففي هذه الآيات -وغيرها- دليل بيّن على اعتبار العقل في الشَّرع وبيان قيمته.
عن بن مسعود رضي الله عنه "لا يكوننَّ أحدكم إمَّعة، قالوا: وما الإمَّعة؟ قال: يجري مع كلِّ ريح"[1]. 
فالذي لا يستعمل عقلة أحد ثلاث عن علي رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن المجنونِ المغلوبِ على عقلِه حتى يفيقَ، وعن النائمِ حتى يَستيقيظَ، وعن الصبيِّ حتى يَحتلمَ»[2].

نصيحة المحب إلى الحبيب وأول النصح نصح النفس

أما آن لك أن تعقل فيما تقول أو تسمع، فكم من مقال كذوب قرأته، وكم من فضائيات الخنع شاهدت، وكم من افتراءات الأفاكين سمعت، وتعلم الموت فيها وترضى! عجبت منك أيها الإنسان؛ علمت أن الشيطان لك عدو، فلما خاطب فيك الشهوة والهوى ضعفت واسلمت العقل واتبعته، فخذلك يوم القيامة وتبرأ منك نسأل الله العفو والعافية.
قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76]، أي لماذا لا تستعملون عقولكم، لتعلموا بها ما يجب أن تعلموه، والآية تدل على أن الذي يستعمل العقل ويستفيد من معلوماته التي أدركها، ويبني قناعاته وتوجهات قلبه عليها، ثم يعمل بجوارحه بما يوافق ذلك فهو العاقل حقاً، وأما مَن أدرك شيئاً وعرفه ثم تصرف بخلافه فكأنه بغير عقل، لأنه يستوي مع غير العاقل في عدم الاستفادة من المعلومات، لكنهما لا يستويان في أثر ذلك، فمن لا عقل له لا حساب عليه، ومن لا يستفيد من عقله ومعلوماته فهو محاسب على ذلك، ووصفه بعدم العقل من باب التقريع له والتنبيه.

الرِّجَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
قَالَ أَيُّوبُ الْقَرْيَةِ: "الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ عَاقِلٌ وَأَحْمَقُ وَفَاجِرٌ، فَالْعَاقِلُ إِنْ كُلِّمَ أَجَابَ، وَإِنْ نَطَقَ أَصَابَ، وَإِنْ سَمِعَ وَعَى، وَالْأَحْمَقُ إِنْ تَكَلَّمَ عَجَّلَ، وَإِنْ تَحَدَّثَ وَهَلَ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْقَبِيحِ فَعَلَ، وَالْفَاجِرُ إِنِ ائْتَمَنْتَهُ خَانَكَ، وَإِنْ حَادَثْتَهُ شَانَكَ، وَزَادَنِي غَيْرُهُ: وَإِنِ اسْتَكْتَمْتَهُ سِرًّا لَمْ يَكْتُمْهُ عَلَيْكَ "[3].

حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَاقِلِ
عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: "مَكْتُوبٌ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَلَّا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا مَعَ إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُصْدَقُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ وَإِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَلَّا يُرَى ظَاعِنًا فِي غَيْرِ ثَلَاثٍ: زَادٍ لِمَعَادٍ أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ"[4].

- مُرُوءَةِ الْمُؤْمِنِ فِي عَقْلِهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَرَمُ الْمَرْءِ دِينُهُ، وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ، وَحَسَبُهُ خُلُقُهُ».
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ: [الْبَحْر الْكَامِل]

نَسَبُ ابْنِ آدَمَ فِعْلُهُ *** فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ فِي النَّسَبْ

حَسَبَ ابْنُ آدَمَ مَالُهُ *** إِنْ طَابَ طَابَ لَهُ الْحَسَبْ

زَيْنُ ابْنِ آدَمَ عَقْلُهُ *** وَالْعَقْلُ زِينَتُهُ الْأَدَبْ

قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: "جَالِسُوا وُجُوهَ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ أَحْلَمُ وَأَعْقَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ"[5].
أَعْلَمُ النَّاسِ أَعْقَلُهُمْ عَنْ هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قُلْنَا لِقَتَادَةَ أَيُّ النَّاسِ أَغْبَطُ؟ قَالَ: "أَعْقَلُهُمْ" قُلْنَا: أَعْلَمُهُمْ؟ قَالَ: "أَعْقَلُهُمْ".
الْعَاقِلُ هُوَ مَنْ يَغْلِبُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ قِيل لِوَرْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ نَصْرَوَيْهِ وَكَانَ قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ: مَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: فَقَالَ: "أَنْ يَغْلِبَ حِلْمُكَ جَهْلَكَ وَهَوَاكَ".
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: "لَا تَنْظُرُوا إِلَى عَقْلِ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى عَقْلِهِ فِي مَخَارِجِ أُمُورِهِ"[6].

ثَلَاثُ صِفَاتٍ مِنْ عَلَامَاتِ الصَّلَاحِ
الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ: "مَا بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ صَلَاحٌ فَاعْتَدَدْتُ بِصَلَاحِهِ حَتَّى أَسْأَلَ عَنْ خِلَالٍ ثَلَاثٍ، فَإِنْ تَمَّتْ تَمَّ لَهُ صَلَاحُهُ وَإِنْ نَقَصَتْ مِنْهُ خَصْلَةٌ كَانَتْ وَصْمَةً عَلَيْهِ فِي صَلَاحِهِ، أَسْأَلُ عَنْ عَقْلِهِ فَإِنَّ الْأَحْمَقَ إِنَّمَا هَلَكَ وَأَهْلَكَ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ يَمُرُّ بِالْمَجْلِسِ فَلَا يُسَلِّمُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ قَالَ: مِنْ أَهْلِ دُنْيَا، وَيَتْرُكُ عِيَادَةَ الرَّجُلِ مِنْ جِيرَانِهِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ قَالَ: مِنْ أَهْلِ دُنْيَا، وَيَدَعُ الْجَنَازَةَ لَا يَتْبَعُهَا لِمِثْلِ ذَلِكَ وَيَدَعُ طَعَامَ أَبِيهِ يَبْرَدُ فَإِذَا هُوَ قَدْ صَارَ عَاقًّا، وَأَسْأَلُ عَنِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنْهَا أَلَا وَهِيَ الْإِسْلَامُ إِنْ كَانَ أَحْسَنَ احْتِمَالَ النِّعْمَةِ وَلَمْ يَدْخُلْهَا بِدْعَةٌ وَلَا زَيْغٌ وَإِلَّا لَمْ أَعْتَدَّ بِهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَأَسْأَلُ عَنْ وَجْهِ مَعَاشِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهُ مَعَاشٍ لَمْ آمَنْ عَلَيْهِ وَأَظَلُّ بِخِلَافِهِ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ أَجَلِهِ"[7].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (ذكره الغزَّالي في (إحياء علوم الدين [3/158])).   
(2) (الألباني: (إرواء الغليل [2/5]).
(3) (الموسوعة الشاملة كتب ابن أبي الدنيا (العقل وفضلة [1/39])).
(4) (الموسوعة الشاملة كتب ابن أبي الدنيا (العقل وفضلة [1/38])).
(5) (الموسوعة الشاملة كتب ابن أبي الدنيا (العقل وفضلة [1/23])).
(6) (الموسوعة الشاملة كتب ابن أبي الدنيا (العقل وفضلة [1/42])).
(7) (الموسوعة الشاملة كتب ابن أبي الدنيا (العقل وفضلة [1/44])).