لن تسرقوا منا رمضان
محمد علي يوسف
نحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة ونية وتعظيم وهوية، دعونا ندلف إلى رمضان بتلك العزيمة والنية وبهذا التعظيم لشعائر الله وإظهار الهوية ولنرددها معًا في كل مكان، في بيوتنا وأعمالنا ومساجدنا، وبين أهلنا وذوينا وأصحابنا، وعلى جدران شوارعنا وعلى جوارحنا، وفي عقولنا وبقلوبنا، وعلى ألسنتنا دعونا نصدع بها قوية ونحطم بها جدر باطلهم وأسوار شهواتهم صائحين: "لن تسرقوا منا رمضان".
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
كتبت هذا المقال في العام الماضي في مثل هذه الأيام تفاعلاً مع دعوة أخي الحبيب حسام أبو البخاري -فك الله أسره وأسر كل المظلومين- والتي أطلقها في مواجهة أمواج الفساد والإفساد التي يحلو للذين يتبعون الشهوات أن يكثفوها في رمضان، وتم نشر المقال في المجلة الحبيبة التي أسأل الله أن ييسر عودة إصدارها مجلة (حراس الشريعة) ولقد عنونت للمقال يومها بنفس عنوان الحملة التي أطلقها حسام بارك الله فيه لن تسرقوا منا رمضان).
وهذا هو نص المقال..
ومن صام أو صلى يعلم حالـه *** ففي النار يلقوه كل حالة
ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم *** يعاقبه اللباط شر العقوبـة
ويلطم خديه ويأخذ مالــه *** ويجعله في السجن في سوء حالة
وفي رمضان يفسدون صيامنا *** بأكل وشرب مرة بعد مرة
كانت هذه بعض أبيات من رسالة أرسلها بعض الموريسكيين، يستنجدون فيها بالسلطان العثماني (بايزيد الثاني) من هول ما يجدون في الأندلس بعد سقوطها في يد (القشتاليين)، والموريسكيون لمن لا يعرفهم هم أولئك الأندلسيون الذين بقوا في الأندلس بعد سقوط دولة الإسلام سنة 1492م.
ومعنى كلمة الموريسكيين هو: "العرب المتنصّرين"، أو بمعنى أدق الذين أجبرتهم أسبانيا على التنصّر بالإكراه بعد سقوط الأندلس، ومن رفض التنصّر كان يقتل هو وأهله أو يذوق الويلات والفظائع، حتى يتمنى الموت في أقبية الكنائس على يد زبانية محاكم التفتيش الوحشية..
لذا فقد اضطر هؤلاء الموريسكيون لإعلان النصرانية تظاهرًا فقط، وبقوا زهاء قرنين من الزمان مسلمين يكتمون إسلامهم إلى أن اندثر الإسلام في أجيالهم المتأخرة بعد ذلك بفعل القمع الرهيب الذي كان يخفت من صوت الحق في تلك الربوع رويدًا رويدًا..
ورغم أن أسبانيا كانت تحظر عليهم التفاهم باللغة العربية وإحياء أي تقاليد إسلامية أو شعائر تعبدية، إلا أنهم كانوا يتمتعون بقدرة عجيبة على الاحتفاظ بلغتهم فيما بينهم وداخل بيوتهم وبين أولادهم، وكانوا يتحدثون القشتالية لغة أسبانيا في تلك الأزمان مع غيرهم من الأسبان النصارى حتى لا ينكشف أمرهم.. وكان لكل شخص منهم اسمان اسم عربي يتخاطبون به بينهم ولا يعرفه الأسبان، واسم قشتالي أسباني يعرفه به الأسبان، ولكن الويل كل الويل لمن يثبت عليه ارتكاب المحظور والتكلم باللغة العربية، أو التلبس بالقيام بأي شعيرة من الشعائر الإسلامية، فقد كانت محاكم التفتيش حينئذ تذيقه الويلات من سلخ وإحراق للناس أحياءً، وقطع أطرافهم أو اغتصاب نسائهم أمام أعينهم، في مشاهد غاية في الفظاعة لا فرق فيها بين كبير أو صغير، أو عجوز أو شيخ..
العجيب أن هؤلاء الموريكسيين ورغم حفاظهم على سرية معتقدهم الذي لم يكن يظهر إلا أثناء ثوراتهم المتعددة، أو من خلال رسائلهم للسلاطين المسلمين، كتلك التي صدرت بها المقال أو في تحقيقات محاكم التفتيش مع من كشف منهم، إلا أنهم كانوا يأتون إلى رمضان وتتعاظم في نفوسهم العزة الإسلامية وتعلو هممهم لدرجة تجعلهم لا يستطيعون كتمان تعبدهم ولا إخفاء تعظيم شعائر دينهم في هذا الشهر تحديدًا.
ولقد حاول المؤرخون الأسبان الذين عاصروا المورسكيين بأسبانيا رسم صورة لحياتهم الدينية السرية، وقد خرج جلهم بخلاصة مفادها: "أن صيام شهر رمضان واحترامه وتعظيم شعائره هو أكثر ما تشبّث به المورسكيون، رغم مرور العقود على تنصيرهم..
يقول المؤرخ الأسباني بورونات إي باراتشينا (Boronat y Parrchina) محاولاً رسم صورة عن حياة المورسكيين الدينية، كما كانوا يؤدونها خفية عن أعين الوشاة النصارى، وقدأورد عدة مظاهر أساسية في حياة المسلمين بينها الصيام حيث ذكر عن شهر رمضان: "ومدته ثلاثون يومًا لا يأكل المسلم خلال اليوم إلا في الليل عند بزوغ النجم، وفي كل ليلة يتسحر المسلم فيأكل بقية ما خلفه في أكل الليل، يأكل قبل الفجر ويغسل فمه ويؤدي الصلاة، ويتطهر المسلم قبل بدئ رمضان، يبدأ الصوم برؤية الهلال وينتهي برؤيةالهلال.. بعد ذلك ينتظر أحد عشر شهرًا والشهر الثاني عشر يكون هو رمضان، بحيث أن رمضان يبدأ قبل رمضان السابق له بنحو عشرة أيام إذ هكذا يكون حساب الأهلة، بعد أن ينتهي شهر رمضان، -ومدته ثلاثون يومًا- يحتفل المسلمون بعيد الفطر".
واستخلصت الباحثة الأسبانية غارسيا مرثيدس أرينا من دراسة لمحاضر محاكم التفتيش الأسبانية أن: "العبادات الأكثر رسوخًا في حياة المورسكيين والتي يتردد ذكرها في كل محاضر التفتيش تقريبًا هي صيام رمضان والطهارة والصلاة"، تقول الباحثة: "وبدون أدنى شك, صيام رمضان هو العبادة الدينية الأكثر تأصلاً في حياة المسيحي الجديد وفي الغالب هي أكثر عبادة يحافظ عليها الجميع، ويمكن القول بأنه أخر مظهر إسلامي من حيث التلاشي فصيام رمضان كما تصفه المحاضر يرتكز أساسًا على الامتناع عن الطعام والشراب، والمحافظة على ذلك من الفجر إلى الليل عند ما تطلع النجوم خلال شهر رمضان بأكمله، على وجه التحديد طابع الرفض والامتناع في الصيام مثل ذلك طابعه الجماعي يجعل منه العبادة الإسلامية الأكثر تأصلاً وبالتالي الأكثر تميزًا".
أما الباحث الأسباني الشهيرخوليو كارو باروخا فقد ذكر نقلا عن كتاب (سرفنتس والمورسكيون): "أنه في بداية القرن السابع عشر كان أهل مرسية وجيان ومن بقي في غرناطة يصومون رمضان"، أي بعد أكثر من مائة عام على سقوط غرناطة حافظ الأندلسيون على صيام رمضان، وهذا إن كان يدلّ على شيء فإنما يدل على عظم مكانة هذا الشهر عندهم رغم بطش النصارى بهم واستضعافهم إياهم.
وقد شكلت مراقبة هلال رمضان للأندلسيين مهمة محفوفة بالمخاطر، نظرًا لانتشار أعين الوشاة الذين يترصدون الحركة الكبيرة والصغيرة التي قد توحي بأن فاعلها مسلم، لكن شدة شوقهم لصيام رمضان كانت أكبر من خوفهم من النصارى، فورد في العديد من الروايات التاريخية أنهم كانوا يصعدون إلى المرتفعات لرؤية الهلال حرصًا على صيام رمضان في وقته الشرعي.
وقد عاش الأندلسيون في حالة خوف وحذر من الوشاة وأخفوا عقيدتهم والتمسوا الخلوات والأماكن المنعزلة لأداء فرائضهم ومنها الصيام، وكان النصارى إذا حل رمضان يمتحنوهم لمعرفة ما إذا كانوا ممسكين ورغم اعتذار الأندلسيين بأعذار مختلفة لتبرير عدم أكلهم، فإنهم كانوا يتابعون ويراقبون من طرف محاكم التفتيش، وهذا ما جعل عدد المورسكيين المدانين في شهر رمضان أكثر بمراحل من الشهور الأخرى.
ولتفادي المراقبة النصرانية عمل الموريسكيون الأندلسيون على احتراف مهن تٌبعدهم عن أعين الوشاة، حتى يتمكنوا من أداء شعائرهم في اطمئنان نسبي، وهكذا فقد اشتغلوا بمهنة نقل البضائع حيث كانوا يقضون رمضان في قرى غير قراهم أو في طريقهم إلى مدينة أخرى، وقد شكل لهم هذا فرصة لدعوة الأندلسيين إلى الإسلام وتعليمهم أمور دينهم.. -تخيل!-.
لم يكتفوا فقط في ذلك الشهر بالتعبد وإنما علت هممهم لدرجة أن حرصوا على الدعوة إلى الله، والمساعدة في هداية الخلق إليه وفي هذه الظروف العصيبة، والاستضعاف الرهيب، ولولا خشية الإطالة لأوردت من محاضر محاكم التفتيش بعض النماذج لقضايا حوكم أصحابها وعذبوا لأنهم حرصوا على إظهار الشعيرة في رمضان، والدعوة إليها ودلالة غيرهم لسبيلها..
تذكرت تلك الأحداث التاريخية ووثائقها وأنا أتابع وأشارك قدر وسعي في تلك الحملة الرائعة، التي أطلقها أخي الكريم حسام أبو البخاري بالتعاون مع جمع من الشباب الطيب وسموها باسم معبر للغاية: "حملة لن تسرقوا منا رمضان"، تذكرت حال الموريسكيين وأنا أتأمل هذا العنوان المعبر ثم سألت نفسي: ومن يسرق منا رمضان؟! هل هم القشتاليون السفاحون؟! هل هم مجموعة الساديين المجرمين الذين كانت متعتهم في الحياة أن يمزقوا أجساد المؤمنين ويقطعوا أوصال الصائمين القائمين؟! هل قطاع الطرق إلى الله هذه الأيام يحملون سيوفًا ورماحًا يضعونها على رقاب المسلمين، كما كان الحال مع المورسكيين الذين ذكرت طرفًا من سيرتهم؟!
الجواب: لا.
إن قطاع الطرق وسارقي رمضان هذه الأيام لا يحملون سيفًا ولا يستعملون آلة تعذيب في محكمة تفتيش، ومع ذلك تجد كثيرًا من المسلمين يسلمونهم رمضان بدون تهديد أو وعيد! تجد كثيرًا من المسلمين رغم سعة العيش وسهولة العبادة ويسر إظهار الشعيرة أقل تمسكًا من أولئك المستضعفين المساكين الذين قدروا رمضان بشكل أفضل بكثير من العديد من شباب المسلمين اليوم، ولم يترخصوا رغم إكراههم وجواز ذلك لهم..!
لكن المشكلة هذه الأيام مزدوجة لا ينبغي أن يتحمل مسؤوليتها سارقو رمضان وحدهم، رغم عظم جرمهم، ورغم عدم تمكن العقل من إيجاد أي عذر لهم يجعلهم يكثفون هجمتهم في هذا الشهر بالذات، نعم المشكلة مزدوجة يتحمل جزءًا كبيرًا منها من سمح لهم بسرقته، ولم يؤمِّن على رأس ماله، يتحمل مسؤوليتها من لم يتفكر لحظة ويسأل نفسه سؤالاً حاسمًا: لماذا يفعل سارقو رمضان ذلك؟! لماذا يعلمنون رمضان؟! وعلمنة رمضان هي الاصطلاح الذي أراه مناسبًا لوصف تلك المهزلة، بل الجريمة التي تتفاقم كل عام..
لماذا لم نتفكر بجدية في سر هذا السعار الفني والإعلامي في رمضان؟!
لماذا يغرسون تلك المفاهيم الخفية التي تغير من طبيعة رمضان في الوجدان المسلم؟!
لماذا يتحول رمضان إلى شهر مسلسلات وبرامج مسابقات وتفاهات وفوازير وسهرات؟!
ما علاقة رمضان بالدورات الرياضية أو بالخيام الترفيهية؟!
من غرس تلك المفاهيم في عقول المسلمين وربطها برمضان؟!
وهل من فعلوا ذلك يريدون فقط تسلية صيامك، أم أنهم في الحقيقة يريدون تضييع صيامك وقيامك؟! يريدون تضييع القيمة الأكبر لرمضان وهي التغيير للأفضل، للأتقى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، هذه هي الغاية وذلك هو المقصد الرباني والذي في مقابله المراد الشيطان الشهواني: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء من الآية:27].
تأمل وتدبر.. هدفهم ليس فقط أن تميل أو تزل، وغايتهم ليست مجرد الوقوع في أمر يحتمل خلافًا
هدفهم الذي أخبرك به الله -ومن أصدق من الله حديثًا- هو أن تميل {تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}، دعهم ينكرون كما يشاءون، ودعهم يتجملون ويكذبون ويدلسون ويزعمون أنهم وسطيون مبدعون، وعلى مصلحتك ومتعتك حريصون، لكن مهما قالوا ومهما ادعوا فإن القول الفصل قول ربك: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
هذا هو الاقتران وتلك هي المزاوجة التي لا تنفصل عند أولئك المفسدين، اتباع شهوات ورغبة في إمالة الخلق، ليس مجرد ميل بل {مَيْلًا عَظِيمًا}، البعض ينكر بكل حماس وجود طائفة تريد للأمة أن تتبع الشهوات وأن تميل هذا الميل العظيم، وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويسفهون بكل قسوة ممن يحذر الخلق من تلك الطائفة وكأنه يدعي شيئًا أسطوريًا مستحيلاً، كالغول والعنقاء والخل الوفي، بينما لو تدبروا كتاب ربهم لوجدوا هذا البيان القطعي في الآية السابقة عن تلك الطائفة المضلة التي تريد للمؤمنين الميل معها، وتسعى بقوة لتمرغهم في أوحال الفساد إلى جوارها، وهؤلاء هم سارقو رمضان، وتلك هي حقيقتهم جلية ظاهرة..
فلماذا نتغافل عنها؟
لماذا نسمح لهم أو لغيرهم بسرقته؟
لماذا لا ندخل رمضان بنفسية المورسكيين، ونواجه سيوف شهواتهم ورماح مغرياتهم وخناجر فتنهم بنفسية مجاهدة صلبة؟
لا نحتاج أن نفعل كما فعل المورسكيين، فنخرج إلى البراري والأصقاع فارين بديننا من محاكم التفتيش، أو أن نستخفي بشعائنا خوفًا من عذاب جلاد وبطش متجبر، ولكن مهمتنا بلا شك أهون فقط نحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة ونية وتعظيم وهوية، دعونا ندلف إلى رمضان بتلك العزيمة والنية وبهذا التعظيم لشعائر الله وإظهار الهوية ولنرددها معًا في كل مكان، في بيوتنا وأعمالنا ومساجدنا، وبين أهلنا وذوينا وأصحابنا، وعلى جدران شوارعنا وعلى جوارحنا، وفي عقولنا وبقلوبنا، وعلى ألسنتنا دعونا نصدع بها قوية ونحطم بها جدر باطلهم وأسوار شهواتهم صائحين: "لن تسرقوا منا رمضان".