شهر رمضان.. وقفات وأحكام (2-2)
ينبغي أن يكون شعار المؤمن في رمضان قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وأن يقتدي بحال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"
- التصنيفات: فقه الصيام - ملفات شهر رمضان -
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن مسائل مهمة عن الصيام ، فأشار إلى حكم الصيام وحكمته وفضله، وتطرق إلى أحكام الصيام من ثبوت دخوله وشروط وجوبه وصحة صيامه وفرضه ومفطراته، وفي هذه الحلقة يتابع مسائل أخرى تهم الصائمين .
ثامناً: مسائل القضاء :
1- الحائض والنفساء يجب عليهما القضاء بالإجماع [1]؛ فعن معاذة رحمها الله قالت: "سألتُ عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحروريةٌ [2] أنتِ؟ قلت: "لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" [3].
2- المسافر يجوز له الفطر ولو لم يكن عليه مشقة بالصيام لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أََوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أََيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة:185]. وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟" فقال رسول الله: «هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه» [4].
3- من أفطر متعمداً في رمضان بغير عذر فهو آثم إثماً عظيماً؛ وعليه التوبة إلى الله، ويجب عليه قضاء ما أفطر على القول الراجح وهو قول الجمهور [5]. والدليل على وجوب القضاء:
أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضِ» [6].
ب- قوله صلى الله عليه وسلم للمُجامع في نهار رمضان بعد أن ذكر له الكفارة: «وصم يوماً، واستغفر الله» [7]. أما إذا كان الإفطار بالجماع فيجب مع القضاء الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين .
4- المريض الذي شق عليه الصوم: يجوز له الفطر؛ بل قد يجب إذا ترتب على صيامه إلحاق ضرر به، ويقضي ما أفطر، ومثله في الحكم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما [8].
5- العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالشيخ الكبير والمريض مرضاً لا يُرجى برؤه، فهذا لا يجب عليه الصوم، ويجب عليه أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، فعن عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنه يقرأ: {وَعَلَى الَذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، قال ابن عباس: "ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كلّ يوم مسكيناً" [9].
6- الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا بلغا الهذيان وعدم التمييز، لا يجب عليهما الصيام ولا الإطعام؛ لسقوط التكليف .
الوقفة الخامسة: سنن الصيام :
1- تأخير السحور؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة". قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية" [10].
2- تعجيل الفطر لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» [11].
3- أن يفطر على رطب؛ فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن فعلى ماء .لحديث أنس رضي الله عنه قال: "كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء" [12].
4- لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاءٌ عند الإفطار إلا ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه: كان رسول الله إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» حديث حسن [13].
5- أهم السنن وآكدها أكل السحور لقوله: «تسحروا فإن في السحور بركة» [14]، وقال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحَر» [15].
6- أن يكون في سحوره تمر لقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم سحور المؤمن التمر» [16].
7- أن يقول لمن سابه أوشاتمه: إني امرؤ صائم .
8- والسنّة في عدد ركعات التراويح أن لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" [17]، والزيادة جائزة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن رجلاً قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف صلاة الليل؟" قال: «مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة» [18].
الوقفة السادسة: زاد الصائم:
ينبغي أن يكون شعار المؤمن في رمضان قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وأن يقتدي بحال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" [19].
وإليك أخي المسلم بعض ميادين المسابقة في الخيرات في رمضان :
1- قيام الليل: فلا تخلو ليلة من قيام ليحصل على الأجر الوارد في قوله: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [20]، وأن يصلي التراويح مع الإمام حتى ينتهي لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "صُمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا .
فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل .فقلت: يا رسول الله: لو نفلتنا قيام هذه الليلة .قال: فقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسبَ له قيام ليلة». قال: فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور .ثم لم يقم بنا بقية الشهر" [21].
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثلاث ليال ولم يخرج الرابعة خشية أن يفرض عليهم .وليس معنى ذلك أن يقتصر على صلاة التراويح فقط؛ فإن أمكنه أن يصلي من آخر الليل وحده فهو من تمام القيام.
2- قراءة القرآن: قال صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» [22]. وقال عليه الصلاة والسلام: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه والحسنة بعشر أمثالها» [23].
3- تفطير الصائمين: قال: «من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً» [24].
4- العمرة: قال: «فعمرة في رمضان تعدل حجة» وفي رواية: «حجة معي» [25].
5- الصدقة: والنصوص في فضلها مستفيضة من الكتاب والسنة، وقد اختصها الله تعالى؛ فكأن المتصدق يقرض الله؛ ومَنْ أعظمُ وأجزل وفاءً من الله؟ قال تعالى: {مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوّه، حتى تكون مثل الجبل»، وهي من أسباب دخول الجنة كما قال: «يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» [26]، واعلم أخي المسلم أن الصدقة لا تنقص المال، كما ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «ما نقصت صدقة من مال» [27].
وتأمل معي الحديث التالي: الذي يبين سبب تراجع الكثيرين وترددهم في الصدقة؛ فعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يُخرج رجلٌ شيئاً من الصدقة حتى يَفك بها لحيي سبعين شيطاناً» [28]، وبعد هذا العرض المؤثر من نصوص الصدقة أدعوك يا أخي ألا تترك أيّ فرصة للصدقة: على فقير، أو بناء مسجد، أو طبع كتاب، أو غير ذلك، في البيت، أو المسجد، أو في اللجان الخيرية، حتى تلك الصناديق التي تشاهدها في بعض المحلات التجارية، ولو أن تضع شيئاً يسيراً لتدحر بها شياطين الجن والإنس، وتكفر سيئاتك، وتثقل موازينك يوم القيامة، فتراها كالجبال العظيمة، وتفوز كل يوم بدعاء الملائكة؛ كما ثبت في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً») [29].
وما أجمل أن يكون المسلم واسطة خير في الصدقة والزكاة بين الناس ومن يستحقها. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "الخازن المسلم الأمين الذي يُنفِّذ ما أُمر به كاملاً موفوراً طيباً بها نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ المتصدقين" [30].
محاذير وتنبيهات :
1- يمسك بعض الناس قبل الفجر بوقت (عشر دقائق مثلاً) احتياطاً، وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه؛ فهو غير مشروع.
2- بعض المؤذنين يحتاط للناس فيؤذن قبل الوقت وهذا خطأ، والصواب أن يؤذن عند دخول الوقت؛ فهذا هو المشروع، وحتى لا يغتر بأذانه بعض النساء في البيوت فيصلين قبل الوقت.
3- بعض الناس في رمضان يصلون بعد الأذان بوقت يسير؛ والأوْلى أن يتأخروا بوقت تطمئن نفوسهم بدخول الوقت؛ فقد ثبت أن عدداً من التقاويم غير دقيقة وأنها تسبق دخول الوقت بنحو ربع إلى ثلث ساعة.
4- هذا شهر الصيام وبعض الناس يجعله شهر الطعام، فتضيع الأوقات الطويلة وخصوصاً على المرأة في صنع ألوان الطعام.
5- الحذر من الوقوع في المحرمات وخصوصاً ما يتفنن به شياطين الإنس من أفلام ومسلسلات.
6- ينبغي على المرأة المسلمة أن تحذر الخروج إلى الأسواق متطيبة، أو متبرجة، أو بدون حاجة، أو بدون محرم، وكم يتألم المؤمن من امتلاء الأسواق بالنساء ليالي رمضان وخصوصاً في العشر الأواخر منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________
(1) حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، ص 47 .
(2) يقال لمن اعتقد مذهب الخوارج: حروري؛ نسبة إلى حروراء، وهي بلدة قرب الكوفة ، وكان أول اجتماع للخوارج بها للخروج على عليّ فاشتهروا بالنسبة إليها، انظر: فتح الباري، 1/502 .
(3) أخرجه البخاري، ح/321، ومسلم واللفظ له، ح/335 .
(4) أخرجه مسلم، ح/1121 .
(5) أخرجه أبو داود، ح/2363، وابن ماجة، ح/1676، وأحمد 2/ 498، والدارقطني وقال: رواته ثقات كلهم، (2/184) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص (1/427) وصححه ابن تيمية في حقيقة الصيام ص 14، وقال أحمد شاكر: (إسناده صحيح)، (شرح المسند 10/111) وصححه الألباني في الإرواء (4/51).
(6) أخرجه أبو داود، ح/2376، وابن ماجة بلفظ: «وصم يوماً مكانه»، ح/1671، ومالك، ح/29 وغيرهم، قال النووي: (رواه البيهقي بإسناد جيد) (المجموع 3/76) وصححه أحمد شاكر في شرح المسند (6/147) والألباني في الإرواء (4/90).
(7) انظر بداية المجتهد (1/302).
(8) انظر: مجالس شهر رمضان، ص 33، 36.
(9) أخرجه البخاري، ح/4505.
(10) أخرجه البخاري، ح/922.
(11) أخرجه البخاري، ح/1957، ومسلم، ح/1098.
(12) صحيح أبي داود، ح/2356.
(13) صحيح أبي داود، ح/2357.
(14) أخرجه البخاري، ح/1923، ومسلم، ح/1095.
(15) أخرجه مسلم، ح/1096.
(16) صحيح أبي داود، ح/ 2345.
(17) أخرجه مسلم، ح/738.
(18) أخرجه البخاري، ح/1137.
(19) متفق عليه.
(20) متفق عليه.
(21) صحيح أبي داود، ح/1375.
(22) أخرجه مسلم، ح/804.
(23) صحيح الترمذي، ح/3087.
(24) صحيح النسائي، ح/811.
(25) متفق عليه.
(26) متفق عليه.
(27) أخرجه مسلم، ح/2588.
(28) السلسلة الصحيحة، ح/1268.
(29) أخرجه البخاري، ح/1442.
(30) أخرجه البخاري، ح/1438.
عبد الله الإسماعيل