إتقان الصيام (1)

محمد هشام راغب

هذا التيسير الذي نلمسه خلال رمضان واضح كل الوضوح في الصيام نفسه فبعد أول رمضان تجد الصيام معتادا وسهلا، ومختلفا عن صيام أي يوم في غير رمضان. وهذه كله من فضل الله وتوفيقه. والآن السؤال الذي يتبادر كثيرا إلى أذهاننا: لماذا يكون تأثير رمضان قصير المدى على أكثر الناس؟ بحيث نرى الكثيرين ينقلبون على أعقابهم بعد رمضان، وبعضهم حتى في النصف الأخير من رمضان؟ لماذا يفقد بعضنا هذه الحماسة وهذه الدفعة الإيمانية التي يحسها في بداية رمضان؟

  • التصنيفات: فقه الصيام -

اتصل بي مسئول كبير منذ سنوات بعد قليل من رؤية هلال رمضان ليهنئني بقدوم الشهر الفضيل. وكان هذا المسئول معروفا بسوء خلقه وعدوانيته وإيذائه لكثير من خلق الله مع جهره بالمعاصي المختلفة. وبعد التهنئة برمضان، قال بنبرة غريبة عليه: عندما سمعت منذ قليل الإعلان عن رؤية هلال رمضان شعرت أني فقدت كل رغبة في الشر وإيذاء الناس!
قلت: وهل يضايقك هذا؟
قال: بالطبع لا، فأنا أعرف رأي الناس في سلوكي وأحوالي، ولكن تعودت على ذلك، وأحيانا أجد لذة وقوة في شخصيتي بسبب هذه الأخلاق السيئة. لكني الآن عندي هذا الإحساس الغريب، إحساس الزهد في الشر!
مضي أخونا في الإمساك عن الشر خلال الأيام الأولى من رمضان ثم لم يلبث أن عاد إلى سيرته القديمة للأسف الشديد. كثيرا ما أتذكر تلك المكالمة الهاتفية مع بداية شهر رمضان. هذا الشهر الكريم له قوة ذاتية في توفير أسباب الهداية والطاعة لسببين واضحين. الأول ما ورد في الخبر عن تصفيد مردة الشياطين، وفي هذا إعانة على الطاعة.

والثاني أن رمضان يوفر لنا جوا جماعيا للعبادة والطاعة. وهذا يساعد ويسهل، عندما تجد كل الناس صائمين، في الطريق وفي العمل وفي كل مكان. الإنسان يتأثر بالبيئة المحيطة به، فإذا وجد الجو العام جو عبادة، فهذا يساعده ويؤنسه. ولذلك تجد الصيام صعبا بعض الشيئ على المغتربين المقيمين في غير بلاد المسلمين. وتجد أيضا صيام الأيام الستة البيض بعد انقضاء رمضان صعبا بعض الشيء، لأنك تصوم هذه الأيام النافلة وأنت تجد من حولك يأكلون ويشربون. ولذلك نجد أيضا صلاة التراويح ميسورة على أكثر الناس برغم ما فيها من مشقة غير معتادة، وذلك أيضا للقيام بها بشكل جماعي عام.

هذا التيسير الذي نلمسه خلال رمضان واضح كل الوضوح في الصيام نفسه فبعد أول رمضان تجد الصيام معتادا وسهلا، ومختلفا عن صيام أي يوم في غير رمضان. وهذه كله من فضل الله وتوفيقه. والآن السؤال الذي يتبادر كثيرا إلى أذهاننا: لماذا يكون تأثير رمضان قصير المدى على أكثر الناس؟ بحيث نرى الكثيرين ينقلبون على أعقابهم بعد رمضان، وبعضهم حتى في النصف الأخير من رمضان؟ لماذا يفقد بعضنا هذه الحماسة وهذه الدفعة الإيمانية التي يحسها في بداية رمضان؟

لعل أحد أهم الأسباب في هذه الظاهرة هو عدم إتقاننا لصوم رمضان. عدم إتقاننا للأعمال التي نقوم بها في رمضان من صيام وصلاة وصدقة وقراءة للقرآن وذكر لله ودعوة وغيرها. قد نقوم بها بشكل روتيني، وقد نقوم بها حريصين على كم الأعمال وليس على كيفيتها وإتقانها. إن أعمال الدين عند القيام بها فيها أجر وفيها فائدة. وقد يؤجر العبد على عمله من واسع فضل الله، لكنه قد يحرم الفائدة والأثر من هذا العمل بسبب غفلته عن إتقانه.

وفي الحديث
«إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» أو «يُحكمه» (وهو حديث ضعيف وقد حسنه بعض أهل العلم بل ذهب الشيخ الألباني إلى تصحيحه). وقد يغني عنه على أي حال الحديث الصحيح في مسلم وغيره من حديث شداد بن أوس «إن الله كتب الإحسان على كل شيء». وكثيرا ما ينصرف فهم هذا الحديث إلى إتقان أعمال الدنيا فقط وهو مطلوب أيضا ولا شك، ولكن هذا يشمل أعمال الدين أيضا. إن إتقان صوم رمضان يعني إتقان كل الأعمال التي نقوم بها في رمضان.

وأولها الصوم، وإتقان الصوم يعني أن نأتي به على مراد الله وبالطريقة التي كان يصوم بها نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا يشمل اجتناب كل ما نهينا عنه من المفطرات في نهار رمضان، ومن النواهي الأخرى كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه قليقل إني صائم إني صائم»، وقوله أيضاً «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه».

فتأمل ما في هذين الحديثين من نواهٍ للصائم. فمن إتقان الصيام أن نمتنع عن كل هذه الأشياء، عن قول الزور والكذب وعن فحش الكلام وعن الشتم والسباب وعن مجاراة الغير في فحشهم وتجاوزاتهم، وحتى إذا تعدى أحد عليك فلتقل إني صائم مرتين، مرة تذكر بذلك نفسك ومرة تذكر بها ذلك المتعدي. وكل مرة تقع في شيء من هذا فإنه يُنقص من قيمة صيامك ويُنقص من تأثيره عليك ومن استفادتك منه.