الطريق إلى باب الريان

خالد بن عبد الرحمن الشايع

لقد نزلتم بساحةٍ مَلأَى بالفرص ومجالات السباق إلى جنات النعيم، لقد أدركتم موسمًا فيه من الخيرات ما لا يحصيه إلا الله جل وعلا، فحيث ما انقلبتم وأينما الْتَفَتُّم، وجدتم خيرًا كثيرًا، فالسباق السباقَ إلى هذه الخيرات، فينبغي ألا تفوت لحظةٌ من اللحظات إلا وفيها من الخير الذي يدوَّن في الصحائف ما يُرجى معه المغفرة والرضوان عند الله جل وعلا.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ: فهنيئًا لكم أيها الأخوة الكرام، هنيئًا بلوغ هذا الشهر الكريم، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل بلوغه على الجميع مباركًا، وأن يعيننا جميعًا فيه على ما يحبه ويرضاه.

أيها الأخوة الكرام، لقد نزلتم بساحةٍ مَلأَى بالفرص ومجالات السباق إلى جنات النعيم، لقد أدركتم موسمًا فيه من الخيرات ما لا يحصيه إلا الله جل وعلا، فحيث ما انقلبتم وأينما الْتَفَتُّم، وجدتم خيرًا كثيرًا، فالسباق السباقَ إلى هذه الخيرات، فينبغي ألا تفوت لحظةٌ من اللحظات إلا وفيها من الخير الذي يدوَّن في الصحائف ما يُرجى معه المغفرة والرضوان عند الله جل وعلا.

أيها الأخوة الكرام، خمس ليالٍ مضت في كل ليلةٍ من هذه الليال لله عتقاء من النار، فتأمل يا عبد الله هل دُوِّن اسمك ضمن هذه الأسماء التي امتنَّ الله جل وعلا عليها، وهو أمرٌ لا شك أنه في بادئ الأمر ومنتهاه مَحض فضل الله جل وعلا، وامتنانه على عباده، لكن الله جل وعلا جعل للأمور أسبابًا، فمهما أتى العبد بالسبب، فإن الله حكيمٌ رحيم، والله جل وعلا شاكرٌ عليم، فتأمل يا عبد الله في من دُوِّنت أسماؤهم في هذه الليالي الخمس الماضية، وقد اعتقوا من النار، هل كنت من ضمنهم؟ هذا في علم الغيب، لكن كما تقدم أن مَن سابَق بالعمل، وتيسَّر له ما شاء الله تعالى من المسابقة، فإنه يحسن ظنه بربه أنه جل وعلا يكتبه في هؤلاء العتقاء من النار.

أيضًا أيها الأخوة الكرام، فرصٌ متوالية في الليل والنهار، فمن ذلك أن جل وعلا قد جعل للصائم دعوةً لا تُرد سواءً في لحظات يومه كله، أو عند فطره، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما (رواه الإمام أبو داود والإمام الترمذي، وابن ماجه)، أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ثلاثةٌ لا تُرد دعوتهم الصائم حين يُفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم» ( صحَّحه ابن حبان وغيره).

نعم أيها الأخوة الكرام، إن هذه الدعوة التي يرفعها العبد إلى ربه جل وعلا، قد يجعل الله تعالى بها صلاح دينه ودنياه، وعاقبته ولقاه بربه جل وعلا، فكم ضيَّعنا من الأوقات التي ينبغي أن نُبادر فيها بالدعاء إلى الله جل وعلا! وتأملوا أن ربنا سبحانه قد أعقب آيات الصيام بهذه الآية الكريمة وهي قوله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].

نعم أيها الأخوة الكرام، لا يهلك على الله إلا هالك، فإنه سبحانه قد سهَّل السُّبل إليه، وهيَّأ الأمور، ومما يضاعف فرص الثواب عند الله جل وعلا، والقبول عنده سبحانه أنه جعل أيضًا من أوقات الإجابة لدعائه سبحانه وقتًا فاضلًا يكثُر من الناس اليوم أن يكونوا متهيئين فيه، ألا وهو وقت السَّحَر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ينزل اللهُ إلى السماء الدنيا كلَّ ليلةٍ . حين يمضي ثُلثُ الَّليلِ الأولُ . فيقول : أنا الملكُ . أنا الملكُ . من ذا الذي يَدعوني فأستجيبَ له ! من ذا الذي يسألني فأُعطِيَه ! من ذا الذي يستغفِرُني فأغفرَ له! فلا يزال كذلك حتى يضيءَ الفجرُ» (رواه مسلم)، فتأملوا هذا الفضل العظيم، ولذا قال بعض العلماء: هذا واحدٌ من أسرار بركة هذا الوقت، وهو وقت السحر.

وفي شأن الدعاء أيضًا شُرع للمسلم عند فطره أن يتوجَّه إلى الله تعالى بالحمد والشكر والثناء، الذي هيأ له الطاعة والقربى منه جل وعلا ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو بهذا الدعاء، أو يحث عليه: «ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» (حسنه الألباني)، وهذا حُسن ظنٍّ بالله جل وعلا، واستشعارٌ للطاعة واستشعارٌ للنعمة، فالمؤمن الذي أمسك قبل لحظات عن الطعام والشراب والمفطرات، ها هو الآن يُفطر بأمر الله جل وعلا، وهذه هي حقيقة العبودية أن المؤمن يُقبل على الشيء أو ينتهي عنه بحسب أمر الله جل وعلا، وما شرع له، ومن الفضائل والفرص في هذا الشهر الكريم قوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه». 

أيها الأخوة الكرام، هذه العبارات الثلاث، هذه الجمل الثلاث في هذا الحديث الشريف، ربما قرعت أسماعنا عدة مرات، لكن تأملوا أيها الأخوة، إنه شأنٌ عظيم، إنه شأنٌ كبير أن يُغفر للإنسان كل ما تقدم من ذنبه في عملٍ يسير، ولذلك لا يُفوِّت هذه الفرصة إلا محروم.

من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، فهو صائمٌ بأمر الله تعالى، يرجو الثواب عنده سبحانه لا رياءً، ولا سمعة، ولا موافقةً للناس، ولكنه امتثال لأمر الله جل وعلا، ولا بد أيضًا أن يكون هذا الصوم كما أمر الله جل وعلا محفوظًا مما يُخل به أو يُضعفه عند الله جل وعلا، هذا الصوم الذي اختصه الله جل وعلا من بين بقية الأعمال بأن يكون له ثوابٌ خاص، وجزاءٌ مختصٌ، لا يماثله شيءٌ من الثواب كما دل على ذلك ما ثبت في (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به». 

تأمَّل أيها الأخ الكريم أن ربنا سبحانه يُبين في هذا الحديث أن الصوم لا يخضع لهذه القاعدة، وهي قاعدةٌ عظيمة فيها امتنانٌ من الله تعالى بمضاعفة الثواب.

فمن رحمة الله سبحانه أنه لا يجزي الحسنة بحسنةٍ مثلها، ولكن يضاعفها الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعف الله أضعافًا كثيرة إلى سبعمائة ضعفٍ، وإلى أضعاف ذلك، لكن في الصيام له قانونٌ خاص، وله قاعدةٌ أخرى، وله امتنانٌ أعظم عند الرب جل وعلا، فالثواب عليه لا تدركه عقول بني آدم، فالإنسان الذي توصل إلى الأرقام وعرف منتهاها، لا يمكن أن يحيط عقله ولا خياله بعِظَم الثواب وجزيل العطاء على الصيام، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به.

والصوم جزءٌ من الصبر ونوعٌ من الصبر، والله تعالى قال في كتابه عن الصبر وثواب الصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

ولتطف بعقلك كيفما شئت، ولتتصور أنَّى شئت هذه الآية الكريمة {يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يا ألله! بغير حساب، لا يمكن للأرقام ولا للخيال أن يحد هذا الثواب، وإنما يكون هذا الأمر أيها الأخوة لمن صام إيمانًا واحتسابًا، وحقَّق مراد الله جل وعلا في صيامه، وذلك أن يصوم إيمانًا واحتسابًا، وأن يحفظ صومه من خوارمه، ومما يُقل ثوابه، ومما يضعفه عند الله جل وعلا؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «فإذا كان صوم يوم أحدكم، فلا يرفث ولا يفسق، وإن جادله أحد، أو قال إن قاتَلَه أحد، فليقل: إني امرؤٌ صائم» (صحيح البخاري ومسلم). 
إني امرؤٌ صائم، كأنه تاجٌ على رأسه له مزيةٌ تستثنيه عن الدخول في أي جدالٍ أو خصومة، إني صائم لا يمكن أن أُذهب الثواب، ولا أن أُعطِّل الجزاء من الله جل وعلا في دخولٍ في خصومة، حتى ولو أخطأت عليّ، أو ظلمتني يا من تقابلني، وبلا شكٍ ينبغي أن يكون هذا الصوم أيضًا مُبعدًا للمؤمن عما يكون من الرفث والفسوق، وأنواع العصيان، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَن لم يَدَع قول الزور والجهل، والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامه وشرابه» (صحيح البخاري). 

إن الله غنيٌ عنا وعن أعمالنا، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131].

أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أن من يكفر، فإنه لا يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه، فالله جل وعلا غنيٌ عن عباده، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه، والمعنى أن هذا الذي يدع الطعام والشراب الذي أحله الله في الأصل، ثم يتعاطى المحرمات والآثام التي هي محرمةٌ في كل حين، فلا داعي لهذا الصوم منه؛ لأنه حينئذ لم يستشعر حقيقة الصيام ومغزاه، ومراده وحكمته، فهو حينئذ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؛ إذ ينبغي أن يكون للصوم أثره وسكينته على المؤمن في نهاره، ثم يستتبع ذلك في ليله.

أيها الأخوة الكرام، ومن الفُرَص العظيمة ما جاء في هذا الحديث المتقدم أيضًا: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابُا، غُفر له ما تقدم من ذنبه». 

وقد سنَّ لن نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قيام رمضان جماعةً في المساجد، كما ثبت من فعل السلف الصالح، ومن فعل الخلفاء الراشدين، وإمامهم في هذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي صلى بعض الليالي بالصحابة في ليالي رمضان، ثم ترك ذلك خشية أن يُفرض عليهم رحمةً بأُمته، ثم أعاد عمر رضي الله عنه هذه السُّنة، وجمع الناس على أُبي بن كعب رضي الله عنه، ولا تزال هذه السنة إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ملايين من المسلمين صفُّوا أقدامهم في ليالي رمضان عامًا بعد آخر على مدى ألف وأربعمائة وثلاث وثلاثين عامًا تقريبًا.

فقد فُرض الصيامُ في السنة الثانية من الهجرة، وصام نبيُّنا صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات، والمقصود أين مكانك يا عبد الله ضمن هذه الملايين التي تتابعت على هذه السُّنة العظيمة سُنة محمد بن عبدالله الذي شرع لنا قيام رمضان، وبيَّن الفضل والثواب فيه في هذا الحديث: «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه».

وقد قال العلماء رحمهم الله: إن من قام التراويح في رمضان في كل ليالي رمضان فإنه بإذن الله تعالى حائزٌ لهذا الفضل والثواب، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المؤمن إذا صلى مع إمامه، فينبغي ألا ينصرف حتى يقضي الصلاة، فقد قال: «إذا قام العبد مع إمامه، فلا ينصرف» (صحيح الترمذي رقم:806).

فقال عليه الصلاة والسلام في شأن المأموم: «فلا ينصرف حتى ينصرف إمامه».
من قام مع إمامه حتى ينصرف، كُتب له قيام ليلة، فقيام الليلة يُكتب لك إذا بقيت مع إمامك حتى ينصرف سماعًا للقرآن، وتعبدًا للرحمن، وخضوعًا بين يدي الملك الديَّان جل وعلا، ومن الفرص في هذا الشهر الكريم التي يمنحها الله جل وعلا لعباده، ما يكون فيه من المبادرة إلى الخيرات، ومن ذلك تلاوة القرآن الكريم.

فقد كان من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يعرض القرآن الكريم على جبريل عليه السلام في كل عامٍ مرةً، ويكون ذلك في رمضان، ويدل على هذا ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المُرسلة".

تأمَّل انعكاس هذا الفضل، انعكاس هذه المُدارسة مدارسة القرآن  فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وفي آخر رمضان صامه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عرض القرآن تلاه كاملًا على جبريل مرتين، ومن هنا استحب العلماء أن يكون للمؤمنين عنايتهم بالقرآن الكريم بختمه وتلاوة كلام ربهم، وبخاصةٍ في شهر رمضان، وقد أُثِر عن السلف وعباد الله الصالحين أخبارٌ عظيمةٌ في هذا، فمنهم من كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام، فيختمه عشر مراتٍ في هذا الشهر الكريم، ومنهم من كان يختمه كل ليلتين، وجاء عن الإمام الشافعي وعن غيره من الأئمة، أنهم كانوا يختمون القرآن في رمضان كل يومٍ وليلة، وهذا الأمر يتهيأ لمن فتح الله عليه، وفرغ نفسه من الشواغل، أو أنه لم يكن مطالبًا بشيءٍ من الالتزامات لأن الفراغ والبعد عن المشاغل نعمةٌ من الله جل وعلا، ألم تقرؤوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيها كثيرٌ من الناس، الصحة والفراغ» ( صحيح البخاري).
 

فإذا وجد الإنسان فراغًا فليبادر، وإلا فليجعل له حصةً يوميةً لا يغادرها، فإن فاتته من القرآن اليوم، عوَّضها من الغد، حتى تكون له ختمةٌ أو ختمتان في هذا الشهر الكريم، فهذا الشهر شهر القرآن؛ قال ربنا سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعدُ:
أيها الأخوة الكرام، رُوِي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «صلِّ صلاة مودعٍ..» (صحيح الجامع:3776). والمعنى في هذا الحديث تخيَّل لو أن هذه الصلاة التي تُصليها هي آخر صلاةٍ لك في حياتك، فكيف ستُصليها؟ وهل سيكون ذهنك فيها كغيرها من الصلوات؟ تفكَّر في أمر كذا، وتُرتِّب لما بعد الصلاة، ارتباط أو عمل، فيدخل بك الشيطان من وسواسٍ إلى آخر، ومن فكرةٍ إلى ثانية، حتى تُفاجأ بقول الإمام السلام عليكم ورحمة الله، بالتأكيد لا.

لَمَّا يُقال للإنسان: هذه آخر صلاةٍ تدخل بعدها إلى عمليةٍ نسبة نجاحها ضئيلةٌ جدًا، أنت إلى الوفاة أقرب، لن يفكر بهذه الصلاة بشيءٍ من أمور الدنيا، ولا أموالها ولا أحوالها، ولكن بالتقرب إلى الله، وإخلاص هذه الصلاة، وإتقانها بين يدي الله جل وعلا، وهنا أيضًا حينما تدرك هذا الشهر الكريم، تتأمل حينما تَسبح بفكرك وخيالك إلى عامٍ مضى في شهر رمضان الماضي، صام معنا عددٌ من الأحبة بصحتهم وعافيتهم، بسلامتهم وراحتهم، وكانوا يؤمِّلون إدراك شهر رمضان من هذا العام، لكن حِيلَ بينهم وبين ذلك بالأجل، فتأمَّل لو كان هذا شهر رمضان، هذا هو آخر رمضان في حياتك، وأقول كما قال عليه الصلاة والسلام: «صلِّ صلاة مودع»، وأقول: صُم صوم مودعٍ، فلربما كان شهر رمضان هذا آخر رمضان في حياتك، وقد أعطاك الله طول العمر على خيرٍ وعافية، ولكن المؤمن يخشى؛ كما قال ربنا: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } [المعارج:27، 28].

إن الأجل وحلوله وساعته لا يُدركها أحد: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ  تَمُوتُ} [لقمان:34].

فكيف سيكون رمضان في حياتك بهذه الفضائل وهذه الخيرات التي تضمَّنها، وامتنَّ الله تعالى بها على عباده.

أيها الأخوة الكرام، إن التفريط والله منا كثير، إن التفريط منا في هذه الخيرات وفي هذه الفضائل كثيرٌ جدًّا؛ يقول عليه الصلاة والسلام: «ما من ميتٍ يموت إلا تمنى الرجعة إلى الدنيا» (رواه الترمذي مرفوعًا عن أبي هريرة).

تأملوا أن هذا الحكم على جميع الموتى ما من ميتٍ يموت إلاَّ وقد تمنَّى الرجعة إلى الدنيا، لكن لماذا من مات فقيرًا أو مات غنيًّا، أو غير ذلك، كلهم يتمنون الرجعة للدنيا؛ لا لحطامها، ولا لأموالها؟ قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يتمنى الرجعة ليزداد من العمل الصالح، وأما المذنب فيتمنى الرجعة ليستعتب». 
ليتوب الكافر، ليؤمن المؤمن العاصي، ليُصحح أخطاءه، ويتوب إلى ربه جل وعلا.

بل إن الشهيد الذي تكون له المنزلة العالية في الجنة، وتكون أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضرٍ تأوي إلى قناديل معلقةٍ في العرش، الشهداء الذين قال الله عنهم: { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].

يتمنون الرجعة إلى الدنيا لأي شيء؛ لينالوا ثواب عملٍ صالح، ليس أي عمل، ولكنه العمل الذي بلغوا به المنزلة بفضل الله تعالى التي آلوا إليها، يرجعون لأجل أن يجاهدوا مرةً أخرى.