دِماءُ الوَرَقِ - (3)

رحاب حسَّان

قلوبنا المُزهرة حبيسة الظِلال.

ستعودُ جديدةً، مشرقةً.

سعيدةً كناظِرينا.

موْجة واحدة ستُعيد كل شيء إلى مكانه.

كما أتتْ أخرى فجأة وأجلستنا ها هنا، على شواطئ الدماء وبين زبَد النفاق.

  • التصنيفات: الشعر والأدب -

 

(1)

علي بابا

وهل من المشرِّف يا علي بابا سرقة الكنز وحرمان وطنك جله منه؟

لن تبدو نزيهًا أمينًا مهما بذلت، لأن المغارة في حقيقة الأمر لم يكن لها كلمة سر

كما أوهمتنا.

إن لحظة مساومتك للأربعين حرامي لا تزال مسجلة حتى وان كان اللقاء سريا.

سيأتي اليوم الذي أُحاججك فيه، ولن تستطيع حينها أن تنكر الصفقة.

إن هذا الكنز ليس سوى نصف كنز، وأنت تعلم أنهم قد أخذوا منك النصف الثاني!

ليس هذا ما يؤرقني يا علي بابا.

إن ما يؤرقني أنك برغم معرفتك لهم فردًا فردًا.

وبرغم يقينك من غدرهم وعداوتهم.

قد سمحت لهم بتبديل ملابسهم ليرتدوا زي وطنك!!

لقد اصبحوا جزءًا من الشعب بل لقد مثَّلوا نخبته!!

لقد استولوا على التجارة والصناعة، ولأنهم قطاع طرق في الأساس فقد أحرقوا كل ارض بها موطن!

إنهم يبغضون تصاريف الواو والطاء والنون كلها!

المواطن والوطن والنوط بحروفها وحدودها!

إلا ما يكون لهم فيسموه مستوطنة.

إن الأمان المرتسم في خواطر العابرين يؤرقهم، يزعزع كيانهم!

ولا أدري متى ولا كيف أصبحتَ هكذا، وهل جنح ظلام كياستك اتسع  ليطوي لنا كل هذه الخيانات!

***

(2)

براءة

لازلتُ أرثي لحظاتي الحانية الخفيفة المتوافدة تترا على أعناق منابركم.

كم كانت تغذيني، تغمرني أمنًا، كم كانت قُرة عين لي، وسُكنى وطن.

هل يمكنكم أن تتحدثوا إليّ؟

 هل تسمعوا أثير أحزاني؟

هل لا تزال الرياح نسيم،  والبحور أقلام؟

 أتوسل إليكم أن حدثوا نبضاتي التي علمتموني أنها، إن لم تكن أعمال قلب مخلصة..

 فمن تكوني؟!

قد جئتكم اليوم والكرماء، وعناء البسطاء، وقصاصات الأسى لم تزل في جعبتي كما أردتم

وطموح ليس مغرور... صدقوني.

 فطموحي هاكم كله من خيركم من فضلكم من غرسكم.

ها أنا اخفض الجناح، اتضلع الحسن من الظن، لكن ليتكم لو تفهموني.

حدثوني ولا حرج أن حدثتموني دون ان تنظروا في عيوني.

عن علوم وحلق عن دروس وفضائل من سبق.

أقعدوني، حاسبوني، حاكموني، فتشوا بحثًا وتفنيدًا عن كنزكم.

ولكن لا تقذفوني.

إنني لم أسرقه...إنني لم أهرقه، ولكنكم من أعطيتموني!!

إنني لم أحمله يوما كسفرًا، أصفرًا؛ لكنني كما خبّرتموني.

أيْ بُنَيَّة ...

إحملي الكنز ككنزٍ من لآلئ، من ضياءٍ، يسترد الحق من دنيا الزيوف.

أيْ بُنَيَّة ...

حين يُنزع من قلوب الأتقياء كل خائنةٍ، وما طرف الجفون.

أيْ بُنَيَّة...

حين تُختص المحبةُ للإلهٍ.. ليس إلا..

والسلامةُ من ثناءٍ ورياءٍ.

حين يُنظر للأمانةٍ بأمانة..

فالأمانةُ ليس في مالً وجاه.

الأمانةُ في الديانة.. في الشرائع، الأمانةُ حتى في الخصام!

يومها يا بُنية لا تخشي من حقد دفين، ولا من غبار الظالمين.

يا بُنَيَّة حين تزرع الكرامة، حين تستبدلي الدين بدنيا.

لا تخافي لا تهابي، فالكرامة حينها حيثُ انتِ.

يا بُنيَّة حين تنزعي الدنيا؛ ستحظي بالمهابة.

ذاك الذي قد أفهمتموني!

فحَمَلتُه في القلب، وحملت معه سيفكم، ودعيتُ الفرسان!

 وكسرتُ صمت الخزي، وخَرَفَ الرهبانية!!

صدمتي حين استحال سيفكم فجأة إلى صولجان!!

ليتَ أمي لم تَلدني حين شَق عصا فهمي -في لمحةٍ- سيفكم "المكلل" ؟

أفهموني ما فهمكم ما فقهكم -في زمن التحوت- حين نحنوا للسكوت؟

 حَرِّروني أو حَلَّلوني من حُبكم وحنيني لذكركم...

أخبروني -عفوا بدقة- متى كان الفصام؟

متى درستموني مَثنى الكلام؟

متى كان الاجتهاد عَدُوا للثبات؟

كيف كان الحق في الدنيا يعيب الصدق أو يخشى الفعال؟

متى انتحر الورق في بحر الدماء الأزرق؟

اسكتوني، رحمةً لا ترقبوا فيَّ...

 اقبروني.

***

(3)

أمل

"أمل" قصتها الوحيدة بين تلك الأهاجيز هي من ستظل تنبض.

يبرُق فيها الأمل كشعاعٍ واقدٍ من كَنزي الثمين.

حروفها بحدودها الوردية ،تعطر المآقي. 

بسمتها تلك التي كانت على ثغر الحقيقة كوخذة تصفع وجه كل خائن ؛لا تفارقني.

قرأتُ رسالتها البسيطة العميقة ألف مرة؛ علّني ارتشف قدحًا من أسرارها التي دُفنتْ مع محياها في تراب الفناء لتحيا الأمة.

لقد ذهبتْ خالدة مُبرئة وتركتني في حيرةٍ وألف سؤال..

كيف وصلت تلك الصَبيَّة، وبما بلغت ذاك المبلغ؟

هل لأن عَبَراتها التي تُفاخر سحائبَ النصرِ لم تنحني أو تعتذر يوما إلا لرب السماء؟

إن هذا ما جعلني احترم أدمعها حين كانت تنحدر من مقلتيها  كعينا ماء!!

مقلتاها هاتان اللذان هرمتا من أجل الحفاظ على مبدأيهما.. لم تتنازلا عن حقيهما في الرؤية..

رؤية الواقع مطابقًا وليس متوافقا...متزنا وليس ملتبسا.

و رؤيا الما وراء ما وراء كل شيء.

ما وراء الخوف والخطف... في بئر شديدٍ في كل شيء.

شديدٌ في قاطنيه الراسخين كجذور الجبال.

شديدٌ في جلاَّديه المصطفين من سرايا السادية لقلي الأدمغة كنقانق ساخنة.

في جدرانه القاسية كقسوة الصقور حين تجتمع على قصعة واجفة وشلو بريئ.

شديدٌ في أدواته المعدة بعناية لتسحق دروب الصادقين، وتفقأ بصيرتهم وتقطع أحبال أمنياتهم الشادية.

نعم مقلتان تريدان أن تريا الحقيقة الغائرة حقيقة البطش، والصوت الرجيف وأخاديد تخدّ في كل وطن كنا نقطن فيه، لم يختلف في كنهه عبر الزمان إلا أنه  لم يزل يُحفر منه في كل زمن بوسع أوفيائه واتقيائه.

وفي كل مؤول كنا نبيت فيه يتتبعنا سامري يختلس العقول ويسرق أحاديث الضياء ويقتبس من أثر الرسول نفحاته، يعقد بها نفثات تسكن ثورة المشتاق الى حقيقة وهمية، حقيقة يحبها كحب الله حقيقة يعبد فيها ذاته الهالكة في دمار الجهل.

أتذكرُ "أمل" وحديثها العذب قد كان كنسيمٍ باردٍ يمرُّ على فوْرة فؤادي فيرطبه أملًا ووجلًا قائلة بطموحها الجريء:

"يا رمال الصحراء القاسية..

 أخرجي رطبك ونخيلك المتخفي.

سافري به إلى زرعنا المدلل، وحصادنا المهلهل.

 أغيظي به جهلنا المركب.

استفزي بصفائك كل مراوغ.

فإن نقاء حفنتك الأصيلة لم تزل..

ابسطي شمائلك الخفيضة، وذرَّاتك المتواضعة.

على أرضي وبيتي وعشيرتي.

 فإنني أرى فيك زرع قد استوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ به الكفار."

 

"قلوبنا المُزهرة حبيسة الظِلال.

ستعودُ جديدةً، مشرقةً.

سعيدةً كناظِرينا.

موْجة واحدة ستُعيد كل شيء إلى مكانه.

كما أتتْ أخرى فجأة وأجلستنا ها هنا، على شواطئ الدماء وبين زبَد النفاق.

 موجةٌ واحدةٌ..

ستُغِيرُ على نفاياتِ الواقعِ الكئيب.. يومًا ما.

لتحمل كل أحلامهم العاهرة.

 تسحقها وسْط بكاء الزوابع والأعاصير.

سننشد كما كنا نحلم...تمامًا..

طالما لازلنا نحلم".

 

"لا تظن أيها الساعي بجدارة إلى مستنقع الحقارة.

 أنك تُحرز أهدافك بنجاح!

فنحن كلنا للحق فداء.

وأرواحنا الزاهقة ليست سوى حبل حول عنقك تحكم سالفتك.

وغُنمك غُرمك..

ونجاحك في كفاحنا يكتب فشلك.

ونفيك ألف حرة من المجرة ليس سوى ميلادٌ لألفِ ألفِ حرة ومجرة".