[191] سورة مريم (3)
محمد علي يوسف
- التصنيفات: التفسير -
ها هو المخاض قد ألجأها إلى جذع النخلة..
ها قد اقتربت اللحظة الحاسمة..
وحدها في ظلها..
لا رفيق ولا عضد، ولا أمٌ تسعى، ولا قابلة تُعين على آلام المخاض..
لم يكن لدعوة أحد من سبيل..
وكيف كانت ستُخبِرهم؟
إن الأمر مُعقَّد، وإن القوم بسطاء؛ لن يفهموا الآية، وحولهم من رعاع بني إسرائيل من سيظل مجترئًا على القدح في عِرضها، رغم ما جاءهم من الحق وعرفوه..!
لقد كانت مضطرة إلى هذا المكان القصيّ، لا أحد يدرك حقيقة حالها إلا مولاها..
{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم من الآية:23]..
يا له من حزن ذلك الذي يقطر من حروفكِ أيتها الصِّدِّيقة..
همٌ وغمٌ لا تُقدِّره إلا العفيفات..
حُزنٌ وكربٌ لا تعرفه البغايا، ومن هُنَّ على أنفسهن، حتى رضين أن يكن سِلعًا تُباع وتُشترى، وتُلتهَم بالأبصار..
أما أنتِ أيتها الحيية؛ فالموت والنسيان أحب إليكِ من أن يصمكِ بريبةٍ عربيد لا يُقدِّركٍ حق قدركٍ..
{أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم من الآية:24]..
ما هذا الصوت؟!
واقعٌ هو أم خيال؟
كيف، وقد انتبذت من أهلها مكانًا قصيًا!
لا يوجد مخلوق في هذه المكان البعيد..
إنها المعجزة، وإنها الآية..
إنه الغلام الذي لم يكد يخرج بعد..
يتكلَّم!
سبحان الفاطر الخالق القادر الحكيم!
ها هو النبع يتفجَّر من أجلها، لتجد الماء الذي تًرطِّب به حرّ الألم، وشدة الجهد الذي ألمَّ بها..
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم من الآية:26]..
وهل مجرد هزةٌ واهنة بِيدِّ نفساء ضعيفة، لجذع نخلة راسخة؛ تُسقِط ثمارًا يصعد الرجال الأشدّاء ليأتوا بها؟!
نعم، وما ذلك على الله بعزيز، ولله في طلاقة قدرته آيات..
إنها لعطية..
وإنها لهبة من عند من يقول للشيء {كُن فَيَكُونُ}..
وإنها لرحمة..
وكذلك الرحمة..
تَحفُّ بمريم في خِضم شدتها والبأساء التي ألمَّت بها فتُسرِّي عنها وتواسيها. وتتسرَّب إلى قعر بيت فرعون لتُقِرّ عين أم موسى ولا تحزن على بلائها..
وتنفذ إلى إبراهيم بين ألسنة لهب مُشتعِل ليكون بردًا وسلامًا عليه..
إنها الرحمة وإنه الرحيم جل وعلا.