الاستمرارية؛ درس رمضان الفريد
إن تقيدُك بالاستمرارية والديمومة طاعةً وعبادة، فدينك وإسلامك يأمرك بالعمل الدائم المستمر ولو كان قليلاً فاحرص عليه، ولا يحبذ العمل الكثير المنقطع لأنه لا يؤتي ثمرُه ولا يوصل لغاية فابتعد عنه، والتجربة العملية تؤكد ذلك.
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
أمرٌ يتكرّر في كل عام في رمضان، ويلاحظه كثير من المسلمين المصلين، ويشكل في رأيي تحدياً لكل الدعاة إلى الله تعالى والمرشدين والمعلمين، لما ينجم عنه من تضييع لدرس عظيم من دروس رمضان الكريم، بل يُعتبَر مرضاً خطيراً يعبث بجسد الأمة وينذر بإضعافه وإهلاكه، فما هو هذا الأمر يا ترى؟
إنه الآنية وعدم الاستمرارية، إنه الولوغ في اللحظة الحالية والغفلة عن أهدافها وآفاقها، إنه الانفعال بأي حدث أو أمر قادم، والتفاعل معه تفاعلاً عاطفياً ظاهرياً شكلياً، دون الغوص في التفكر في أغراضه ومراميه البعيدة، الأمر الذي يؤدي إلى الفتور والتراجع التدريجي في تطبيق أي أمر قرآني إسلامي، وهو ما يجعل المسلمين دائماً منفعلين غير فاعلين، ومتأثرين غير مؤثرين.
ترى بعض المسلمين في بداية رمضان، ومع طلوع فجر اليوم الأول منه، يتوافدون نحو المسجد لأداء صلاة الفجر في جماعة بأعدادٍ وفيرة، وبقلوب مقبلة إلى الله ومستنيرة، همتهم عالية لأداء الصلوات الخمس بالمسجد جماعة في رمضان، فإذا ما حان موعد صلاة التراويح من ذلك اليوم، لم تجد لك موطأ قدم أو مكاناً للسجود، من كثرة الإقبال والزحام، وربما يتلو المسلم في الأيام الأولى من رمضان أكثر من جزأين من القرآن الكريم، في نية لختم القرآن في الشهر أكثر من مرة، في مشهد إيماني جميل ورائع، يجعلك تستبشر وتتفاءل في بداية هذا الشهر الكريم.
بيد أن أياماً قليلة تمضي من هذا الشهر الكريم، ربما لا تتعدى العشر الأول منه، حتى تلحظ ويلحظ كثير من المسلمين تراجعاً في أعداد المصلين في المسجد، سواءً في صلاة الفجر أو في صلاة التراويح، وتراجعاً في تلاوة القرآن الكريم، وتراجعاً في الالتزام بعبادات وأخلاقيات وآداب هذا الشهر الكريم، بينما تشهد بالمقابل زيادة ملحوظة في أعداد الزائرين للمقاهي والأسواق، في مشهد يوحي بالآنية وعدم الاستمراية في أداء الطاعات والعبادات، والانفعالية وعدم الفاعلية مع كل موسم من مواسم الخير والطاعة، حيث يبدأ البعض محلقاً كالصاروخ، ثم ما يلبث أن يفتر ويذوي شيئاً فشيئاً، حتى يختفي ويذوب.
إن المتأمِّل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، يدرك الهدف الإيماني الكبير والغاية السلوكية العظمى من تشريع الله تعالى لفريضة الصيام، كما يدرك عظم المسافة بين مراد الله تعالى من ذلك التشريع، وسطحية التطبيق العملي لها من قبل بعض المسلمين.
لقد فرض الله تعالى الصيام على المسلمين بهدف تحقيق التقوى فيهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وأنى لهذا الهدف العظيم أن يتحقق بمجرّد الانفعال الآني عدة أيام منه فقط، ثم يكون الانفلات من عباداته وآدابه بقية الشهر، إنه يحتاج لتطبيق حقيقي متواصل لفريضة الصيام طوال أيام الشهر الكريم ولياليه، حتى نحقق التقوى التي ذكرها الله تعالى في القرآن.
قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: "الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه؛ فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفّت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى، فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي" (مفاتيح الغيب للرازي [3/84]).
وليس أمر الاندفاع والانفعال الآني عند بعض المسلمين متوقف على عبادة الصوم فحسب، بل هو داء عام وشامل لكل شؤون حياتهم الدينية والدنيوية، فترى المتعلم يتفاعل مع المعلم في الأيام الأولى من الدراسة بفعل الحماسة، ثم ما يلبث أن يذوي عند تركم المعلومات وصعوبة المذاكرة، وكذلك الأمر بالنسبة لحفظ القرآن وقيام الليل وغيرها من الطاعات والعبادات.
لقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله إلى الاستمرارية وعدم الانقطاع، وأن نبدأ بالأعمال ما نستطيع ولو كان قليلاً، ثم يتراكم ويزداد بمرور الأيام والليالي، وحذرنا أشدّ التحذير من الاندفاع للعمل الكثير المنقطع، لأنه لا ينبت شجرة ولا ينضج ثمرة.
فقد ورد أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وبغض النظر عن كونه حديثاً ضعيفاً، فإن معناه صحيحاً، فيقال لمن بالغ في طلب الشيء وأفرط فيه في بدايته، مما يتسبب في فواته وضياعه بعد ذلك بالمنبت، وهو تماماً ما يحصل مع بعض المسلمين في شهر رمضان المبارك.
وفي الحديث الصحيح عن علقمة رضي الله عنه قال: سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ قلت يا أم المؤمنين: "كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم هل كان يخص شيئاً من الأيام؟" قالت: "لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يستطيع" (صحيح البخاري برقم: [6101]).
و عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "سُئِل النبي صلى الله عليه و سلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: « »". "وقال: « ». وقد جاء في شرح الحديث: « »: ألزموا أنفسكم وكلفوها، « »: ما تستطيعون فعله دائماً ولا تنقطعون عنه" (صحيح البخاري بتحقيق البغا [5/2373] برقم: [6100]).
ومن تأمَّل في أيام رمضان ولياليها يدرك هذا المعنى تمام الادراك، فقد جعل الله تعالى خير ليالي هذا الشهر الكريم في أواخره لا في أوائله، حتى يجتهد المسلم في العبادة ويستمر، ويزداد ويربو لا ينقص أو يفتر وينقطع، فقد جعل الله ليلة القدر وهي أعظم ليلة من ليالي الدنيا أجراً وثواباً عند الله تعالى في الوتر من العشر الأخير من رمضان، مما يعني أن الاستمرارية وعدم الانقطاع من أعظم وأبدع دروس هذا الشهر الكريم.
أخي القارئ الكريم، يريد الإسلام من خلال فرضه للعبادات غرس قيم هذه العبادات ومبادئها في نفسك وقلبك، لتؤتي أكلها وثمراتها سلوكاً وعملاً، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالاستمرارية والديمومة، ومما يساعدك على ذلك:
1- لا تكلف نفسك من الأعمال ما لا تطيق، بما لا يعني الإهمال والتقصير وعدم تكليف النفس بأي شيء.
2- في أي مشروع ديني أو دنيوي: إبدأ باليسير والقليل ثم تدرُّج منه إلى الأكثر فالأكثر، حتى تصل إلى الذروة والقمة بإذن الله.
3- شهر رمضان مدرسة عظيمة لتعلم الاستمرارية وعدم الانقطاع، فاغتنم ذلك بوضع أهم الطاعات والعبادات والأخلاق التي تريد أن تستمر عليها في رمضان وبعد رمضان.
4- إن تقيدُك بالاستمرارية والديمومة طاعةً وعبادة، فدينك وإسلامك يأمرك بالعمل الدائم المستمر ولو كان قليلاً فاحرص عليه، ولا يحبذ العمل الكثير المنقطع لأنه لا يؤتي ثمرُه ولا يوصل لغاية فابتعد عنه، والتجربة العملية تؤكد ذلك.
عامر الهوشان