(2) اثَّاقلتم
أبو محمد بن عبد الله
تسمع الآذن كلمة "اثَّاقلتم" في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة "طنًّا" على الأقل من الأثقال! ولو أنك قلت: تثاقلتم، لخف الجرس، ولضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ، واستقل برسمها
(2)- اِثَّــاقلتم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[التوبة:38].
أصل "النفر"، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجَه على ذلك. وهو هنا طلب النفير، وإعلان حالة الاستنفار لتلبية النداء والاستجابة للأمر.
{اثّاقلتم إلى الأرض}: قال المفسرون: معناه أَثَّاقلتم إلى نعيم الأرض، أو إلى الإقامة بالأرض.
وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الأرض.
وأصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها. ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابًا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، حين طابت الثمار والظلال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومفاوز هائلة، وعدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمْرَهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فشقّ عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ }؛ أي: قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم-: {انْفِرُوا}؛ أخرجوا في سبيل الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْض}، أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم.
وذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله ، قبل أن يكون معه منهم أحد ، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم ، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير.
وهذه الكلمة فيها قراءات:
ففي قراءة ابن مسعود، والأعمش: {تثاقلتم} [انظر:زاد المسير 2/ 259 وابن عطية3/ 24]
وفي قراءة الجمهور {اِثَّاقلتم}. قال أبُو البقاءِ: اثَّاقلتم: ماضٍ بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون؟!
وقرئ : {أثَّاقَلْتُمْ} على الاستفهام للإنكار والتوبيخ [البيضاوي: 3/ 81].
فما التَّثاقل؟!
التثاقل تكلّف الثقل، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض، والثِقَل حالة في الجسم تقتضي شدّةُ تَطَلُّبِهِ للنزول إلى أسفل، وعُسرَ انتقاله، وهو مستعمل هنا في البطء مجازًا مرسلًا، وفيه تعريض بأنّ بُطأهم ليس عن عجز، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم.
وعُدّي التثاقل بـ {إلى} لأنّه ضمن معنى المَيل والإخلاد، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض مِنْ بُعْدٍ للقعود والسكون بها.
وقد يستقل لفظ واحد -لا عبارة كاملة- برسم صورة شاخصة، إنّ لفظًا مفردًا هو الذي يرسم الصورة، تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن، وتارة بظله الذي يلقبه في الخيال، وتارة بالجرس والظل جميعًا.
تسمع الأذن كلمة "اثَّاقلتم" في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة "طنًّا" على الأقل من الأثقال! ولو أنك قلت: تثاقلتم، لخف الجرس، ولضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ، واستقل برسمها.[التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، 91-92].
ومجموع قوله: {اثَّاقلتم إلى الأرض} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلًا وجبنًا بحال من يُطلب منه النهوض والخروج ، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض، والتمكّن من القعود، فيأبى النهوض فضلاً عن السير.
قال سيد قطب: إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض، ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار وثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.. ثقلة اللحم والدم والتراب.. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه {اثَّاقلتم}. وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: {اثاقلتم إلى الأرض} وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق.
وما يحجم ذوعقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق»(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[1910])، فالنفاق- وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال- هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
إذن: اثَّاقلتم: تكلف الثقل والتثاقل.. أي أبدى وكأنه عليه حملاً ثقيلاً لا يستطيع النهوض به؛ فيسرع مع المسارعين، وينفر مع النافرين، ولا يستطيع التخلي عنه ونفضه لمكانه في نفسه.. وهو في الحقيقة ثقل جواذب الدنيا المتنوعة.. وهو من هذه الحيثية ثقل حقيقي لكنه معنوي..
واثَّاقلتم: تصنعتم التثاقل فمن متثاقل بمكتسبات (دينية) ومن متثاقل بمكتسبات دنيوية..
لي أغنام أو إبل أنتظر نتاجها وأخلافَها، لي شركات ومصانع أنتظر نتاجها..
لي حلقات تدريس؛ يلتف الناس حولي فيها بأمان، وتنكسر إليَّ أعناقُهم، لا أريد النفير عنها..
لي تلاميذ كُثُر بين يديَّ أو من وراء الشاشات، تمتلئ بهم نفسي، كما تمتلئ نفوس أصحاب السلطان بكراسيهم التي يحكمون بها الناس، فيعز عليَّ نفض هذا الثقل لأنفر مع النافرين، ولو لكلمة حقٍّ عند سلطان جائر!
لنا مكتسبات دعوية من خطب متاحة ومنابر مرتاحة وقنوات مباحة، تثَّاقل نفوسُنا .. لكن إذا أراد الباطل نحى ذلك بجرة قلم.. ولو كنت ممن خدموه أو داهنوه أو هادنوه، أو باركوا له سفك دماء المسلمين، لأن الباطل لا يهادن الإسلام، ولو هادنه الإسلام.
وللحق فإن النفير هنا في الجهاد حين كان الجهاد قائما شرعيًّا صحيحًا.. لأن سبب النزول يدل على أنها كذلك، لكن القاعدة أن "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب" كما هو معروف في أصول الفقه.. ومن ثَمَّ فإن كل ما كان في سبيل الله تعالى من أعمال الخير، وخاصة ذات النفع العام، فإنها داخلة تحت الدعوة لهذا النفير، والمسلمون مأمرون أن ينفروا في سبيل الله إليها، لطلب العلم النافع، للدعوة إلى الله، لهداية الناس وتعليمهم الخير، لأعمال التطوع التي تنفع البلاد والعباد، للقيام في مصالح الناس– الأقربين منهم والأبعدين-، والإنفاق على الفقراء والمساكين والمرضى، الإنفاق من العلم، ومن المال، ومن الجاه والوجاهة في الشفاعات الخيرية التي يرضاها الله، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء» (لبخاري، برقم:[1432]، ومسلم، برقم:[2627]، في صحيحيهما)...
كلَّها من سبيل الله سبحانه، وكلها تَثَّاقل عنها النفوس والأبدان، فيتعلل المُثَّاقِلون لتركها بشتى العلل العليلة، والأثقال الثقيلة..
وهكذا يوضِّح لنا القرآن الكريم بهذه الشَّدة شِدَّة التثاقل عن طاعة الله تعالى، والتعلل والتحايل، وتكلُّف الموانع واصطناع المعذير، وما الأمر إلا ثقلة الطين وحمأته قد غلبت ما سكنها من نفوس وما حوت من أرواح، فهوت بها عن عالم الصفاء والوفاء بيعة عقدها الله سبحانه مع الصفوة من عباده: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، وإذا تم البيع على الأنفس ما دونها أولى.
والله أعلم.
مراجع المنقول-عدا المقول- تفاسير:
الطبري، القرطبي، ابن عطية، زاد المسير، البيضاوي، أبو حيان، ابن كثير، فتح القدير، ابن عاشور، سيد قطب، أبو بكر جابر الجزائري ، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، والتصوير الفني في القرآن له أيضًا.
20/ 07/ 2014