إشكالان في شروط التوبة النصوح
محمد الأمين الشنقيطي
لو راجع صاحب المعصيةِ نفسه مراجعة صحيحة، ولم يحابها في معصية الله، لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل! والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل، لما يتبع لذته من عظيم الضرر..
- التصنيفات: التوبة -
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله:
التوبة النصوح: هي التوبة الصادقة. وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح..
بأن يُقلع عن الذنب إن كان ملتبسًا به، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه جل وعلا، وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدًا.
اعلم أنه لا خِلاف بين أهل العلم في أنهُ لا تصحّ توبة من ذنب إلَّا بالنّدمِ على فعل الذنب، والإقلاع عنه، إن كان ملتبسًا بهِ كما قدمنا أنهما من أركان التوبة، وكل واحد منهما فيه إشكالٌ معروفٌ، وإيضاحه في الأول الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلًا، وإنما هو انفعالٌ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدًا إلا بفعل يقع باختيار المُكلّف، ولا يكلف أحدًا بشيء إلا شيئًا هو في طاقته؛ كما قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلًا تحت قُدرةِ العبد، فليس بفعلٍ أصلًا، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق، كما بينا. والجواب عن هذا الإشكال: هو أن المُراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابهِ التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصيةِ نفسه مراجعة صحيحة، ولم يحابها في معصية الله، لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل!
والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل، لما يتبع لذته من عظيم الضرر..
وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل، وهو ما تستلزمه معصية الله جل وعلا من سخطه على العاصي، وتعذيبه له أشد العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيُهلكه، ويُنغّص عليه لذة الحياة، ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، أنه يتوصل إلى حُصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها. فالحاصل أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلفًا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المُؤدية إلى الندم على المعصية، قول الشاعر وهو الحسين بن مطير:
وَلاَ تَقْرَبِ الأَمْرَ الحَرامَ فإنَّهُ *** حَلاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُها.
ونقل عن سفيان الثوري رحمه الله، أنه كان كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:
تَفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها *** مِنَ الحَرامِ وَيَبقى الإِثمُ وَالعارُ
تُبقي عَواقِبَ سوءٍ في مَغَبَّتِها *** لا خَيرَ في لَذَةٍ مِن بَعدِها النارُ
وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به، مع بقاء فساد ذلك الذنب، أي: أثره السيء، هل تكون توبته صحيحة، نظرًا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت، أو لا تكون توبته صحيحة؛ لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو رُكن التوبة لم يتحقق.
ومن أمثلة هذا، من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المُستوجبة للعذاب إذا بث بدعته، وانتشرت في أقطار الدنيا، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدًا، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه، لانتشارها في أقطار الدنيا؛ ولأن من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووز من عمل بها إلى يوم القيامة، ففساد بدعته باق.
ومن أمثلته: من غصب أرضًا، ثم سكن في وسطها، ثم تاب من ذلك الغصب نادمًا عليه، ناويًا ألا يعود إليه، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة، وسلك أقرب طريقٍ للخروجِ منها، فهل تكون توبته صحيحة، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها؛ لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الغصب، لم يتم ما دام موجودًا في الأرض المغصوبة، ولو كان يسير فيها، ليخرج منها.
ومن أمثلته: من رمى مُسلمًا بسهمٍ، ثم تاب فندم على ذلك، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقة إلى المرمى، هل تكون توبته صحيحة؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة، لأن سهمه في طريقه إلى إصابةِ مُسلم، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة؛ لأن التوبة واجبة عليه، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه معذور فيه؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]،
إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبًا.
وقال أبو هاشم وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي: "إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام، لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن، كالمُكث، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ، والإقلاع ترك المنهي عنه، فالخروج عنده قبيح؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو مناف للإقلاع، فهو منهي عنه، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضًا، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة، وهذا بناه على أصله الفاسد، وهو القبح العقلي، لكنه أخلَّ بأصلٍ له آخر، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال: إن خرج عصى، وإن مكث عصى ، فقد حرم عليه الضدين كليهما".