على قلوبٍ أقفالها حتى يفتحها الله عز وجل
أحمد فريد
العبد قد يمر بأوقات يزداد فيها إيمانه ويقينه، ويصفو قلبه من الشواغل والشهوات والشبهات، ويحصل له حضور قوي عند سماع القرآن، فيمس القرآن شغاف قلبه، فإذا به يستحضر الآخرة كأنه يرى ويشاهد، ويحس بشيء من عظمة الله عز وجل الذى تكلم بهذا الكلام المعجز، فلا يملك نفسه عن البكاء، وهذة الحال الإيمانية تتكرر عند الصالحين، فكأنهم فى حضورٍ دائمٍ، وخشوعٍ كاملٍ، وقد تعرض للمخلطين من أمثالنا الذين خلطوا عملاً صالحاً مع آخر سَيّئاً، وعسى الله أن يتوب عليهم فى نادرٍ من أحوالهم، فكان أقفال الغفلة على قلوبنا، فإذا فتح الله عز وجل هذه الأقفال استشعرنا حلاوة الإيمان، وعظمة القرآن.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
سمع غلامٌ شهده عمر رضى الله عنه قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فقال الغلام: "على قلوب أقفالها، حتى يفتحها الله عز وجل"، فأعجب به عمر رضى الله عنه، فلما استخلف استعمله.
ومن تأمل حال السلف فى كثرة بكائهم عند سماع القرآن تعْجب مِنْ حالهم؛ سمع زرارة بن أبي أوفى قوله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ . فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ . عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8- 10] فشهق شهقة فمات.
ولما نزل الموت بمحمد بن المنكدر بكى بكاءً شديداً فأحضروا له أبا حازم الزاهد فسأله أبو حازم عن سبب بكائه فقال: "سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، فأخذ أبو حازم يبكي معه. فقالوا له: أتينا بك من أجل أن تخفف عنه، فزدت في بكائه، فأخبرهم بما قال"، وكان عمر رضى الله عنه يسمع الآية من القرآن فيمكث فى بيته، ويعوده الناس. وكان الحسن كثير البكاء، فسُئِل عن كثرة بكائه فقال: "أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي".
وكان يزيد الرقاس يبكي ويقول: يا يزيد من يبكى بعدك لك، من يترضى ربك عنك.
قال ابن الجوزى رحمه الله: "من لم يكن له مثل تقواهم، لم يعلم ما الذي أبكاهم، ومن لم يشاهد جمال يوسف عليه السلام، لم يعلم ما الذي آلم قلب يعقوب عليه السلام".
مَنْ لم يَبِت وَالُحبُّ حَشْوُ فُؤاده *** لم يَدْرِ كَيْفَ تُفَتَّتُ الأكْبَادُ
قال ابن القيم رحمه الله: لا بد من سنة الغفلة، ورقاد الهوى، ولكن كن خفيف النوم، فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح.
فالعبد قد يمر بأوقات يزداد فيها إيمانه ويقينه، ويصفو قلبه من الشواغل والشهوات والشبهات، ويحصل له حضور قوي عند سماع القرآن، فيمس القرآن شغاف قلبه، فإذا به يستحضر الآخرة كأنه يرى ويشاهد، ويحس بشيء من عظمة الله عز وجل الذى تكلم بهذا الكلام المعجز، فلا يملك نفسه عن البكاء، وهذة الحال الإيمانية تتكرر عند الصالحين، فكأنهم فى حضورٍ دائمٍ، وخشوعٍ كاملٍ، وقد تعرض للمخلطين من أمثالنا الذين خلطوا عملاً صالحاً مع آخر سَيّئاً، وعسى الله أن يتوب عليهم فى نادرٍ من أحوالهم، فكان أقفال الغفلة على قلوبنا، فإذا فتح الله عز وجل هذه الأقفال استشعرنا حلاوة الإيمان، وعظمة القرآن.
فكأن قفل الغفلة هو الذى عناه الغلام الذى أعجب عمر رضى الله عنه هو المراد فى قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
قيل لعامر بن عبد قيس: "أما تسهو فى صلاتك؟ فقال: أى حديث أحبُّ إلىَّ من القرآن، هيهات مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس"، وكان علي بن الحسين بن زين العابدين إذا توضأ اصفر لونه! فقيل له: "ما هذا الذى يعتريك عند الوضوء؟" قال: "أتدرون بين يدي مَنْ أُريدُ أن أقوم"، وكان مسلم بن يسار إذا وقف فى الصلاة كأنه عودٌ من الخشوع تقف عليه الطير لا تحسبه إلا جذع شجرة، ولقد انهدمت ناحية من المسجد، وفزع لها أهل السوق وما التفت.
سلام الله على تلك الأرواح، ورحمة الله على هذه الأشباح، لم يتبق منهم إلا أخبار وآثار. حسبك أن قومًا تحيا بذكرهم النفوس، وأن قومًا أحياء تقسو برؤيتهم القلوب.