(33) العدوان على غزة بين التقصير والخيانة!

مصطفى يوسف اللداوي

فريقًا من الأنظمة العربية يستغل كل إمكانياته المادية والإعلامية، والسياسية والعسكرية، لتكون جميعها في خدمة العدو، الذي رأى منهم غاية ما يتمنى، وأقصى ما كان يحلم به، وهو ما جعله يعتزّ بأن أفضل ما في هذه الحرب، رغم خسارته لبعض جنوده وضباطه، الحلف المقدس الذي نشأ بين الدولة العبرية وبعض هذه الأنظمة، إذ لو أنفق العدو ما في الأرض جميعًا ليصنع هذا التحالف المتين، فما كان لينسجه لولا الدم الفلسطيني المهراق.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

لم يعد الحديث في ظل العدوان الإسرائيلي البغيض على قطاع غزة عن المتخاذلين العرب، ولا عن المقصِّرين عن نُصرة الفلسطينيين والوقوف معهم، ولا عن المتأخرين عن النجدة والمساعدة، ولا عن الممتنعين عن التحرُّك والمشاركة، إذ قد نجد لبعضهم عُذرًا، وقد نقبل منهم تبريرًا لعجزهم، وتفسيرًا لتأخيرهم، وقد نُصدِّق حجتهم، ونُبرئ ذمتهم، ونعفيهم مما يُحرِجهم..

ولكننا قد لا نقبل عذر آخرين، ولا نُسلِّم بحجتهم، وقد نشك في تفسيرهم، ونرفض القبول بتبريرهم، إذ أن حجتهم ضعيفة، وبيانهم غير مقنع، وصمتهم غير مبرَّر، وحيادهم غير مفهوم، ودعوى انشغالهم وهم، ودفاعهم عن أنفسهم بالضعف وعدم القدرة والخوف من الانزلاق في حربٍ غير متكافئة، كذبٌ وغير صحيح، وهو ليس إلا محاولة للفرار، وحجة للتخلي، وإعفاء النفس من الواجب والمسؤولية.

بعضهم الأول قد لا يملك القوة فعلًا، وقد لا يوجد عنده القدرة على نُصرة غزة بالسلاح أو بالمال، ولا يجد ما يحمل عليه نفسه والمتطوعين، وعنده من المشاكل والهموم، والاضطرابات والقلاقل، والنزاعات والحروب، والفقر والفاقة والحاجة، ما يمنعه عن المشاركة والمساهمة، والمساعدة والنُصرة، وفي هذا يتساوى القريب والبعيد، والجار الجنب والقاصي البعيد.

ولكن قلوب الكثير منهم تكاد تتفطر على غزة وأهلها، حزنًا وألمًا ألا يجدوا ما يُنفقون في سبيلها، ويتمنون لو أنهم يستطيعون نُصرتها بالسلاح، والوقوف معها بالرجال، ومساعدتها ومناصرتها في وجه العدوان، ولكن ضيق ذات اليد، وقلة الحيلة، وعدم القدرة المالية، والبُعد والحواجز والحدود، يحول دون قيامهم بالواجب، وأدائهم لما ينبغي عليهم فعله في ظل هذه الظروف، إلا أن مواقفهم السياسية مُشرِّفة، وإعلامهم الرسمي والشعبي نصيرٌ وصادق، يُسانِد المقاومة، ويُناصِر الفلسطينيين، ويُحرِّض على العدو، ويُعرِّض به، ويدعو إلى مساءلته ومحاكمته، ومحاسبته ومعاقبته، وتكاد شوارعه لا تخلو من المسيرات التضامنية، والمظاهرات الاحتجاجية.

وبعضهم الآخر قادرٌ لكنه خائف، ويملك القوة إلا أنه لا يستطيع، وعنده نفوذ لكنه لا يريد استخدامه، وعنده أموال لكنه لا يريد بذلها، ولديه علاقات، لكنه لا يرغب في استغلالها، ولديه مؤسسات إعلامية كبيرة واسعة الانتشار، ولها جمهور كبير من المتابعين والمحبين، لكنه لا يستغلها لنُصرة المقاومة، ولا لمساندة الشعب الفلسطيني، ولا يُسخِّر أيٍ منها للمساهمة في المعركة، بل يشغل متابعيه بما يُلهيهم ويُنسيهم، ويُسلِّط عليهم الفنون الهابطة، والمسلسلات الكثيرة، التي تستغرق الوقت، وتحرف الجهد، وتشغل المواطنين عن الأهم، وتُبعِدهم عن القضية الأساس، وهؤلاء مغلوبٌ على أمرهم، نسكت عنهم، وإن كُنَّا نعيب عليهم خوفهم..!

إلا أن هناك فريقًا آخر من الأنظمة العربية، ليس مقصِّرًا ولا متأخرًا، ولا هو بالخائف أو الوجل، ولا بالضعيف أو العاجز قليل الحيلة، ولا بالهامشي المُهمل، بل إنها أنظمةٌ قوية عسكريًا، ومتماسكة سياسيًا، ولديها جيوش قادرة، وعندها امكانياتٌ كبيرة، واتفاقياتٌ كثيرة، وتستطيع التدخل والتأثير، وممارسة الضغط ومنع الاعتداء، ويتمتع بعضها بقدراتٍ ماليةٍ ضخمة، وعلاقاتٍ دولية كبيرة وواسعة.

هذه الأنظمة لا تكتفي بالصمت، ولا تُقدِّم العجز، ولا ترضى بالمشاهدة والمتابعة، بل هي شريكةٌ في العدوان، وطرفٌ في الحرب، تتعاون مع العدو وتُنسِّق معه، تسمع إليه وتُصغِي لنُصحه، وتُوجِّهه وتطلب منه، وتُعلِّمه وتُخبِره، وتُزوِّده بالمعلومات وتُقدِّم له المعونات، وتُشجِّعه وتُؤيده، وتُناصِره وتُسانده، وتُواسيه وتُصبِّره، وتُكفِّف دمعه وتُخفِّف ألمه، وتُدواي جرحاه، وتُعزِّي ثكلاه، وتتصل بمسؤوليه للاطمئنان...!

هذا الفريق يُقوِّي العدو على الشعب، ويُموِّل عدوانه، ويمدّه بما يحتاجه، ويُعطيه ما يريد، ويصمت على جرائمه، ويُؤيده في حججه، ويرى عدالة معركته مع المقاومة، فهي بالنسبة له دفاعٌ مشروعٌ عن النفس، وصدٌ طبيعي لعدوان المقاومة، ومحاربةٌ لإرهابها، فهو بهذا يُشارِك العدو في سفك الدم، وإزهاق الأرواح، ويتحمَّل معه المسؤولية الأخلاقية والسياسية، عن كل ما يُصيب الشعب الفلسطيني من قتلٍ وتخريبٍ ودمار.

يستغل هذا الفريق كل إمكانياته المادية والإعلامية، والسياسية والعسكرية، لتكون جميعها في خدمة العدو، الذي رأى منهم غاية ما يتمنى، وأقصى ما كان يحلم به، وهو ما جعله يعتزّ بأن أفضل ما في هذه الحرب، رغم خسارته لبعض جنوده وضباطه، الحلف المقدس الذي نشأ بين الدولة العبرية وبعض هذه الأنظمة، إذ لو أنفق العدو ما في الأرض جميعًا ليصنع هذا التحالف المتين، فما كان لينسجه لولا الدم الفلسطيني المهراق.

هذا الفريق يرى الفلسطينيين يُقتلون ويسكت، ويراهم يُذبحون ويصمت، ويشعر بحاجتهم ويتأخر، ويعرف معاناتهم ويقصِّر، ويُضيِّق عليهم ما هم فيه من ضيق، ويحرمهم رغم الحرمان، ويسجنهم رغم السجن والقيد والاحتلال، ويمنع المناصرين لهم، ويعاقب المتضامنين معهم، ويقطع الطريق عليهم.

ألا ترون أن هناك فرقٌ كبير بين التقصير والخيانة، وبين التفريط والمؤامرة، وبين الصمت والمشاركة، وبين العجز والتأييد والمباركة؟!

إلا أن المقاومة في فلسطين ستتجاوز عجز المقصرين، وخيانة المتآمرين، وستصنع للفلسطينيين وللأمة العربية، نصرًا عزيزًا يتغنَّى به المحبون، ويبكي حلاوته مرارةً المتآمرون والمتخاذلون.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام