(34) خارطة الألم الإسرائيلية

مصطفى يوسف اللداوي

أراد العدو الصهيوني أن يرسم لقطاع غزة الصغير المساحة، والكثيف السكان، خارطة ألم تشمل كل مكان، وتُصيب كل شخصٍ وعائلة، وتصل إلى كل هيئةٍ ومؤسسة، ليُصاب بالرعب والخوف، وتسكنه الرهبة والصدمة، إلا أن المقاومة أرادت شيئًا آخر، فقرَّرت أن تُذيقه الألم من كل مكان، وأن تُجرِّعه المرّ بأيدي أبناء كل العائلات، ليذوق وبال أمره، ويندم على فعله، ويتراجع عن جريمته، وقد أحس يقينًا بأن الخارطة التي رسمها للفلسطينيين ألمًا، قد انقلبت عليه دمًا وألمًا، وحسرةً وندامة.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

يبدو أن العدو الصهيوني مُصِرٌ على إتمام خارطة الألم التي أعلن عنها، وكأنه يريد توزيع عدوانه بالتساوي على كل أرجاء قطاع غزة، فلا يَستثني منه بقعة دون قصف، ولا حيًا دون تدمير، ولا مخيمًا دون تخريب، فقد طالت قذائف دباباته، وصواريخ طائراته كل مكانٍ في قطاع غزة، واستهدف المناطق من البر والبحر والجو، بينما كانت دباباته وجنوده على طول حدود القطاع الشرقية والشمالية، وبوارجه وزوارقه الحربية لا تغيب عن حدوده الغربية على ساحل المتوسط، في الوقت الذي لا تغيب طائراته الحربية، وطائرات المراقبة بلا طيار "الزنَّانة" عن سماء القطاع، تُصوِّر وتُراقب، وتنتقي الأهداف، وتُحدِّد الإحداثيات، لتقوم غيرها بالقصف، أو تتولاها بنفسها انطلاقًا من قواعد التحكم الأرضية.

شمالًا نالت بلدتا بيت حانون وبيت لاهيا النصيب الأكبر من القصف والدمار، بينما أصاب مخيم وبلدة جباليا نصيبًا وافرًا من الصواريخ المُدمِّرة، وبينهما أمطرت طائرات العدو أحياء العطاطرة والتوام والسيفا، وشرق مخيم جباليا بوابلٍ من قذائف المدفعية والصواريخ، عِلمًا أن عدد سكان منطقة الشمال يزيد عن مائتين وخمسين ألف فلسطيني، يعيشون في أحياء متلاصقة ومتجاورة، مكتظة ومزدحمة، الأمر الذي يزيد في حجم الإصابات والأضرار عند أي قصف تتعرَّض له أحياؤه.

أما مدينة غزة، قلب القطاع النابض، وروحه الحية، فقد مزَّق العدو قلبها، وبعثر أحشاءها، فقصف شاطئها والمخيم، والسودانية وتل الهوى، وقلب المدينة وأحياء الصبرة والدرج والزيتون والتفاح، والنصر والشيخ رضوان، ونالت الشجاعية القسط الأوفر من القصف الهمجي الأعمى الغادر، الذي أودى بحياة أكثر من سبعين فلسطينيًا، جُلَّهم من الأطفال والنساء، وغالبيتهم أبناء عائلاتٍ وأسرٍ واحدة.

ونالت الطائرات الحربية الإسرائيلية، والبوارج والزوارق التي تقف قبالة شواطئ القطاع، من المخيمات الوسطى، فأغارت على مخيم النصيرات بحرًا وجوًا، ودمَّرت العديد من بيوته، وتابعت قصفها لمخيمات البريج والمغازي ودير البلح، فقتلت فيها العشرات من الفلسطينيين، ودمَّرت الكثير من البيوت على رؤوس ساكنيها، وإن كان أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، ولكن القصف الإسرائيلي الأعمى لا يُميِّز ولا يُفرِّق، وكل ما يهمّه هو الانتقام من المدنيين، وإلحاق الأذى بالفلسطينيين.

أما محافظة خانيونس، المدينة والمخيم، وبلداتها عبسان الكبيرة والصغيرة والقرارة فقد أوجعها العدو الصهيوني قصفًا، وأثقل عليها بصواريخه المُدمِّرة، وحِمم قذائفه اللاهبة، وكذا محاولات إنزاله البري في بعض مناطقها، واشتباكه مع رجال المقاومة فيها، الأمر الذي جعل من خانيونس وبلداتها كُرة لهبٍ تتدحرَّج، تأذَّى منها أهلها، وتوجع سكانها، وفقدوا من أبنائهم الكثير، شهداء وجرحى، ولكنهم صمدوا في وجه كل المحاولات العسكرية الإسرائيلية، وثبتوا أمامهم، وصدوا هجومهم، ونالوا في كثيرٍ من المواجهات منهم، رغم فارق التسليح والقدرات، إلا أن إرادة المقاومة كانت أقوى منهم وأشد.

كأن بين العدو الإسرائيلي ومحافظة رفح ثأرٌ قديم، وعداوةٌ مستحكمة، وحقدٌ متراكم، فقد صبّ عليها جام غضبه، فقصف قلب المدينة ومخيماتها، ونال جحر الديك والمناطق الحدودية من قصفه نصيبًا كبيرًا، وأغار بكثافةٍ على حدود رفح مع مصر، فحرث بغاراته مناطق الأنفاق، والسياج الحدودي الفاصل، وكأنه يدك الأرض بحقدٍ وكره لتنهار على ما فيها من أنفاق، فهي التي مكَّنت المقاومة من امتلاك كل هذه الأسلحة، وزوَّدته بالصواريخ والقذائف والذخائر، فكأنه عندما كان يقصفها، كان يحاول الانتقام منها، إذ لولاها لما تسلَّحت المقاومة، ولما اشتد عودها، وقوي ساعدها، وأصابت رميتها.  

خارطة الألم الإسرائيلية لا تقتصر على الجغرافيا، إذ لم يكتفِ العدو بتوزيع غاراته على المناطق، ليُعمِّم الألم على السكان كلهم؛ بل وزَّع الألم على الأهداف أيضًا، فقصف المساجد والمستشفيات ومراكز العلاج والأسواق والمباني والمحلات التجارية، ومقرَّات الأونروا ومستودعات الطعام والمؤن والدواء، والمزارع والمعامل والأراضي الخالية، كما قصف الشوارع والطرقات وأعمدة الكهرباء، واستهدف السيارات والعربات والدراجات النارية، كما قصف الحمير والبهائم والدواب.

ولا تكتمل خارطة الألم الإسرائيلية إلا إذا وزَّع الألم والوجع على الأُسر والعائلات، وعلى المناطق والأحياء، فقتل من كل العائلات، واستهدف أغلب البيوت، وتكاد لم تنج من نيرانه عائلة أو أُسرة، ومنها من فقدت الكثير من أفرادها، صغارًا وكبارًا، ونساءً ورجالًا، ليتعمق الألم ويزداد الوجع.

أراد العدو الصهيوني أن يرسم لقطاع غزة الصغير المساحة، والكثيف السكان، خارطة ألم تشمل كل مكان، وتُصيب كل شخصٍ وعائلة، وتصل إلى كل هيئةٍ ومؤسسة، ليُصاب بالرعب والخوف، وتسكنه الرهبة والصدمة، إلا أن المقاومة أرادت شيئًا آخر، فقرَّرت أن تُذيقه الألم من كل مكان، وأن تُجرِّعه المرّ بأيدي أبناء كل العائلات، ليذوق وبال أمره، ويندم على فعله، ويتراجع عن جريمته، وقد أحس يقينًا بأن الخارطة التي رسمها للفلسطينيين ألمًا، قد انقلبت عليه دمًا وألمًا، وحسرةً وندامة. 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام