يا لها من وسطية!
أبو محمد بن عبد الله
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
- التصنيفات: الدعوة إلى الله - قضايا إسلامية -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه؛ وبعد:
فإن كثيرًا من الناس، بل من المسلمين، يرددون أن ديننا دين وسطيٌّ، وأمتنا أمة وسطية، ويقصد كثيرٌ منهم أنها غير متشددة، فإذا أبلغتهم أمرًا فيه حزم، أو نهيًا فيه جزم؛ قالوا لك: يا أخي كن وسطيًا!
والوسط أيضًا كما يفهم بعض الناس أن تكون في الوسط، حتى في معركة الحق والباطل، يتَّخذون الحياد، ويقفون على المسافة نفسها من الفريقين المختصمِين، ويقولون نحن في الوسط! ولعمرك الحياد في مثل هذا نوع نفاق.
وبعضهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مذبذبٌ بينهم، ويقول لك: أنا في الوسط، كما الأمة أمة وسطًا، ثم يجرُّ الآية جرًّا ليتَّكئَ عليها في مسكه العصا من الوسط! {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}[البقرة:143]. يفهمونها على غير وجها، ويضعونها في غير موضعها.
والوسط في هذه الآية، ليس معناه ما يرتكبه بعض الناس من الحياد في معركة الحق مع الباطل، كما نراه اليوم، وللأسف الشديد.
والوسط في هذه الآية ليس هو قَسم المسافة بين اليمين واليسار، ولا بين السماء والأرض.
والوسط في هذا الدين وفي هذه الآية ليس أن تكون خفَّاشًا تُري الطيور جناحك، وتُري الفئران أسنانك!
والوسط في هذا الدين ليس أن تعدل بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان حتى لا تكون متطرِّفًا إلى الحق!
والوسط ليس أن تقترب من المنتصف حتى تبتعد عن الطرف الذي فيه الحق، فتتطرف أيضًا في الاتجاه الآخر!
ومن أسوأ التطرُّف أيضًا أن تكون في طرف لا تنصر فيه الحق؛ فإنك عندئذ تطرّفت إلى الباطل والميوعة!
الوسط في هذه الآية ليس المنتصف، فوسط الشيء ليس منتصفه، ووسط المائة ليست الخمسون!
فيا لها من وسطيةٍ بئيسة كبيسة، شنيئة رديئة!
وإنما وسط الشيء أفضله وأعدله وأحسنه وأمثله وخيره، وليس منتصفه بلازم..
وقد اجتمعت كلمة المفسرين على أن معنى: {أمة وسطا} يدور على معنى العدول والخيار، ولخيريتهم ولعدالتهم اتخذهم الله سبحانه شهداء على الناس، إذ تختار للشهادة الأفضل والأعدل، {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ}؛ فاختار أعدل الأمم وخيرها لتشهد على باقيها، واختار أعد الأنبياء ليشهد على أعدل أمة وخيرها.
ويفسر ذلك أيضًا أن الله تعالى وصف هذه الأمة بأنها كانت خيرة أمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]، وهنا قال:{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، فتحصل من مجموع الآيتين أن وسطية الأمة خيريتها، وأن الوسط هنا خير وأفضل.
وكذلك ما ورد من قوله تعالى قي قصة أصحاب الجنة: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ؟!}[القلم:28]، يفهمها بعض الناس أنه المتوسط في هؤلاء الإخوة، فليس أكبرهم سِنًّا وليس أصغرهم!
ولكن اتفقت كلمة المفسرين على غير ذلك، وإنما قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضحاك، وقتادة في: {قال أوسطهم}، أي: أعدلهم وخيرهم.
وقد نظرت في نحو ثلاثين تفسيرًا فلم أعثر على مُتَّكأ يتَّكئ عليه أصحاب المنتصف، ولكن اجتمعت لي في معناها:
{أَوْسَطُهُمْ}: أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم وخيرهم وأمثلهم، أعدلهم طريقة وأحسنهم قولا، أرجحهم رأيًا، وأحسنهم تدبيرًا.
قال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيرها:
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط وتضع لهم الموازين والقيم وتبدي فيهم رأيها؛ فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقَّى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها ويحكم على أعمالها وتقاليدها ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة..
وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا..
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
{أُمَّةً وَسَطًا} .. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
{أُمَّةً وَسَطًا} .. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
{أُمَّةً وَسَطًا} .. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزاج من هذا وذاك.
{أُمَّةً وَسَطًا} .. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.
ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
{أُمَّةً وَسَطًا} .. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعاً وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
{أُمَّةً وَسَطًا} .. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها.
وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصيغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة. اهـ
في ظلال القرآن: 1/ 131-132.
فيا لها من وسطية هذه؛ ربانية رشيدة مهتدية.
وإنها لَنِعم الوسطية، وإنما ضاع هذا الدين بين المتطرِّفين فيه يمينا أو شمالا: بين الغالي فيه؛ المتشدد فيما ينبغي فيه اللين، وبين الجافي عنه؛ المتميع فيما ينبغي فيه الحزم، وإن كلا طرفي الأمر لمذموم.
فاللهم اجعلنا في هذا الوسط الربَّاني، لا في أوساط اختارهها أو اخترعها البشر، بعيدًا عن شريعة رب البشر.