(4): لأُقَطِّعَنَّكم ولأُصلِّبنَّكم!
أبو محمد بن عبد الله
فلحقده وحنقه وشديد عداوته وعدوانه، وبطشه والتّعالي في تَرَبُّبِهِ، فلا يكفيه أن (يَقْطَع)، فيقوم (يُقَطِّع)، ولا يُشبعه أن (يَصْلِب) فيروح (يُصلِّب)، ولا يطفئ غيظَه هذان، بل يذهب يؤكد بنون التوكيد {لأقطِّعَـنَّ}، {لأصلِّبــنَّ}، وكأني به، يعضّضّضُّ على أسنانه وأضراسه، يكاد يُحدث انفجارًا من الطاء المستعلى، أو يفتك بمخرج النون المغنونة ضغطًا وتشديدًا!!
- التصنيفات: القرآن وعلومه - الطريق إلى الله -
لأُقطِّعَنَّكم...لأُصَلِّبَنَّكم!! عبارات الفرعون الأول، وتهديداته الانتقامية والانقلابية؛ لما دعى إلى الانتخابات، في السوق العامة، وحشر الناس ضُحى، وقال لسيدينا موسى وهارون-عليهما الصلاة والسلام-، هيَّا نلعب الديمقراطية-ديمقراطية الدكتاتور-، ومن غلب حَكَم واتُّبِع!!!
وظنَّ أنه الغالب، غير أنّ اللهَ غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
قال تعالى في قصته: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}[الأعراف:56-71].
وفي الشعراء: { قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)} "[الشعراء: 34-49].
ولا أطيل ببيان معني هذه الآيات، أولا: لأنها واضحة لا تحتاج إلى كثير بيان، وإنما تحتاج إلى قراءة وتدبر، وتنزيل على الواقع..
وثانيا: لأن الواقع اليوم يشرحها بالصوت والصورة، فلا تحتاج إلى كثير بيان وإنما تحتاج إلى تنزيل، ولهذا نزل القرآن، للواقع والحياة...
وثالثا: لأن لي موضوعًا في هذا المعنى وهذه الآيات بعنوان: " الديمقراطية مبتدأ وخبر"
فمن شاء رجع إليه..
والحاصل أنه لَمَّا غَلَب الحقُّ الباطلَ، ودمغه، وانكشف زيف النظام، انقلب الفرعون على مبدأ اختاره هو وحاشيته وسحرته، فقام بانقلابه العسكري، وأرغى وأزبد، وتوعّد وتهدَّد، وبالغ وتشدَّد؛ حتى ظهر تشدُّدُه في ألفاظه: لأقطِّعنَّ، لأصلِّبنَّ...
ودخل عليهم يدكُّهم دكًّا، قطِّعهم تقطيعًا، ويصلِّبَنَّهم في ناقلات الترحيل، عفوًا في جذوع النخل!!!، وهم بين راكع وساجد وتالٍ للقرآن، وداعٍ لمصر الحفظ والرفعة والسلامة والسناء.. هكذا فرعون السلف.. وهكذا أو أشد فرعون الخلَف... في مصر الأولى.. وفي كل مصر وعصر.
ففي سورة الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (124)"[الأعراف:123-124].
وفي الشعراء: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }[الشعراء:49].
وفي طـه: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}[طـه:71].
ففي الأعراف: {ثم لأصلبنكم أجمعين} ، وفى طه والشعراء {ولأصلبنكم} "بالواو المتوعّد بها، فدل على أن الواو أريد بها معنى ثم من كون الصلب بعد القطع والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون."(1).
فرعون الأول.. سلف الفراعنة المُتتالين.. القُدامى والمُحدَثين، يحقد على خصومه، حتى ليكاد يفتك بنفسه في سبيل الفتك بهم...
يتشدَّد ويُشدِّد في التهديد والتنكيل بخصومه من أطهار قومه، وبني جيله وجلدته.. الذين يدعونه إلى الرشاد ويدعوهم إلى الضلال..
واللام في {لأقطّعنّ}، {لأصلّبنّ} لام القَسَم؛ أي: قَسَمًا لأنكّلنّ بكم أشد التنكيل، ولأقطِّعنَّ الأيدى والأرجل من خلاف ثم لأصلّبنّ كلّ واحد منكم وهو على تلك الحال لتكونوا عبرة لمن تحدّثه نفسه بمعارضتنا أو الخروج عنّا فضلا عن الخروج علينا، أو بالكيد لنا والترفع عن الخضوع لعظمتنا، والتعبُّد بشريعتنا، والتذلّل لربوبيتنا.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مُخبرًا عن قيلِ فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدقوا رسوله موسى: {لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف}، وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فيخالف بين العضوين في القَطْع، فمخالفته في ذلك بينهما هو "القطع من خلاف".(2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أوّل من صلّب، وأول من قطّع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون"(3). يعني أنها سنة فرعونية؛ له جزاؤها وجزاء من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد استنَّ بها فراعنة كثيرون في التاريخ، منها محاكم التفتيش المشهورة، ومنها "حماة الشهيدة" ومنها ما تراه الأعين وتسمعه الآذان، وتتفطر لهوله الأكباد وتذوب القلوب، مما يفعل بعض الحكام بشعوبهم، قبل وأكثر مما تفعل بهم يهود بالمسلمين.. وعلة الحكم: التفرعن!
- {لأُصَـلِّـبَنَّـكُم} فيها تشديدان: تشديد لام (أُصلِّب)، وتشديد نون التوكيد.
قال الفرَّاء في معاني القرآن : وقوله: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} مشددة، وَ {لأصْلِبَنَّكم} بالتخفيف قرأها بعضُ أهل مكة. وهو مثل قولك: قتلت القوم وقتَّلتهم إِذَا فشا القتل جاز التشديد."(4). يعين أن التشديد يدل على فشو القتل وكثرته وبشاعته أيضًا.
قال القرطبي: وَقرأ ابن مُحَيْصِنٍ هنا وَفِي الأعراف {فَلَأُقَطِّعَنَّ}، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} بفتح الألف والتخفيف من قطع وصلب"(5)ا هـ. يعني "لأَقْطَعن، لأَصْلِبن"
فلحقده وحنقه وشديد عداوته وعدوانه، وبطشه والتّعالي في تَرَبُّبِهِ، فلا يكفيه أن (يَقْطَع)، فيقوم (يُقَطِّع)، ولا يُشبعه أن (يَصْلِب) فيروح (يُصلِّب)، ولا يطفئ غيظَه هذان، بل يذهب يؤكد بنون التوكيد {لأقطِّعَـنَّ}، {لأصلِّبــنَّ}، وكأني به، يعضّضّضُّ على أسنانه وأضراسه، يكاد يُحدث انفجارًا من الطاء المستعلى، أو يفتك بمخرج النون المغنونة ضغطًا وتشديدًا!!
وهذا التشديد ( ّ) يدل على أحد أمرين، أو هما معًا: شدة التَّقطيع والصلب، فيقطّعهم إربًا إربًا، أو طرفًا طرفًا، أو لكثرة ما أراد أن يُقطِّع منهم ويصلِّب، فقد أراد أن يفعلها بهم {أجمعين}، بالشعب كُلِّه... ولو اقتضى فضُّ اعتصامهم لا بميدان ما، وإنما يفض اعتصامهم بحبل الله، ولو اقتضى ذلك تقطيعهم أشلاءً ودوسهم بالبلدزورات، والجرّّفات، وهو التشديد الآتي:
- وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}
ففيها تشدد آخر في التنكيل {أجمعين}، على شاطئ نهر مصر، "فَوَكَّد ذلك بــ (أجمعين) إعلامًا منه أنه غير مُسْتَبْقٍ منهم أحدًا"(6).
{أجمعين}: فكل من آمن بربهم، واعتقد عقيدتهم، أو نهج نهجهم، أو أيَّدهم، أو وقف معهم، أو تعاطف لمجزرتهم، أو حتى تزوج منهم.. لأنها جماعة إرهابية، فكلهم إرهابيون: لا تُصادَر أموالهم فحسب، بل حتى حياتهم في خطر! حتى السحرة الذين كانوا في جبهة الإغراق والخراب، المسماة: جبهة الإنقاذ، مسَّهم هذا التهديد، ورموا بالخيانة والعمالة لجهات أجنبية... ومع أنهم لم (يؤمنوا)؛ لكنهم (تعاطفوا) وانكسفوا من التقطيع والتصليب والتحريق.. فحتى التحريق سنة فرعونية!!
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « »(الإمام أحمد؛ المسند، برقم:[2821]، وحسنه شعيب الأرناؤوط فيه).
قال ابن عباس: "أربعة تكلموا وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون، وصبي جريج، وعيسى بن مريم، والرابع لا أحفظه"(7).
ولشدة تأَلُّهِهِ يريد أن يسيطر حتى على قلوب الناس، ويريد الإيمان أن يستأذنه ليدخل قلوبهم أو لا، لأن الإيمان محله القلوب أولا: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:123]، فلو قَدِروا على الربط على القلوب فلا تؤمن لفعلوا.. ولكنها ولله الحمد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. وهذا الإنكار كان قبل خطاب التقطيع والتصليب.. مما يبين ويؤكد، أنها معركة ضد الإيمان، وحرب ضد الإسلام، وإن لبَّسوها بمصالح الوطن وحقوق المواطنين، وتخريب الأرض وتعطيل عجلة الاقتصاد!!!
- وفيه تشديد آخر تأكيدًا وتشديدا للصَّلب: في الجذوع وليس عليها!
قال: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِــــــي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه: 71] .
قال كثير من المفسرين:الفاء {في} توضع موضع "على"، و"على" في موضع "في"، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام(8)، وكما قال: فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا، بمعنى واحد، ويقال: حدث كذا في مدينة كذا وبمدينة كذا، وهو من تعاقب الحروف، يعني يعقب بعضها بعضًا ويحل مكانه ويؤدّي معناه..
وقال السمعاني: "وَذكر كلمة {فِي}؛ لِأَن المصلوب يصلب مستطيلا على الْجذع؛ فالجذع يشْتَمل عَلَيْهِ."(9).
وقال البيضاوي: "{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} شَبَّه تَمَكُّن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف"(10)
وقال ابن عاشور: "وتعدية فعل {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} بحرف {في} مع أن الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلبٌ متمكن يشبه حصول المظروف في الظرف، فحرف {في} استعارة تبعية تابعة لاستعارة متعلق معنى {في} لمتعلق معنى (على) ."(11).
وقيل: على رؤوس النَّخل"(12)، ولكن رؤوس النخل سِعافه، وليست جذوعه، فهذا تفسير مستبعد جدًّا!
ولفظ الآية :{في جذوع النخل} وليس "على جذوع النخل" وهو أولى بالاتباع ما دام له مساغ لغوي عربي، ولو تصور في الخارج، ولا ينافيه عِلمٌ! فما يمنع أنه كان يَشقُّ جذع النخلة الكبير، أو يحفره جوفه- وقد بنى الأهرامات وهي أعظم- ويُصلِّبنّهم فيه، زيادة في التنكيل، وتفنُّنا في التعذيب حنقا وحقدا؟!.
والتشديد المعنوي اللفظي الآخر الذي يشهد للتشديد الحرفي قول فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}[طـه: 71].
وهي ليست فلتة عابرة من شخصٍ ما في زمان ما أو مكان ما، بل هي"الحماقة التي يرتكبها كل طاغية، حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة، بلا تحرج من قلب أو ضمير.. وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول."(13)
قال النَّسفي:" كأنه أراد به ترهيب العامة لئلا يتبعوهم فى الإيمان"(14).
وها نحن نرى رأي العين، ونسمع ملء الأذنين، كيف يتفنن الجلَّادون في تعذيب المؤمنين، بل فاقوا فرعون تعذيبًا: بالكهرباء، برميه في الزيت المغلي، في الحوامض الفتَّاكة، حتى ما يبقى جلد على لحم، ولا لحم على عظم..
ثم تعذيب نفسي لا نعلم أن فرعون فعله: يغتصبون محارمه أمامه، ثم يقتلونهم،.. ثم يقتلونه، وهي قتلة تهون دونها القتلات، وعذاب تسهل دون المهلكات، فلا يموت حتى يموت موتات.
كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، يعني يبقيهن أحياءً، أما فراعنة العصر فقتَّلوا الجميع! وإذا فرَّ منهم المطلوب، نكَّلوا بأهله وأقاربه، أو ساوموهم بهم! حقدوا على المسلمين، فأُرهبوهم وأُرعبوهم..
وإذا تأسَّى الفراعنة والمتفرعنون بفرعون الأول.. فللفئة المؤمنة أسوة في مَن آمن من سحرة فرعون حيث قالوا بعد كل هذا التهديد: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}[الأعراف:125-126]. {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:50-51]..
فبعد كل خطابات فرعون العنجهية ردُّوا عليه بخطاب مؤمن موجع له مُفحِش: و {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى }[طـه:72-76].
فنسأل الله تعالى الثبات والنجاة، وكما قالت المرأة الصالحة، امرأة فرعون إذْ قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التحريم:11].
والله أعلم.
------ الهوامش -------
1 - أبو حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ)، البحر المحيط في التفسير، 5 /141.
2- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (المتوفى: 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن ، 13 /34.
3- الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن ، 13 /34.
4- الفراء (المتوفى: 207هـ)، معاني القرآن، 1 /391.
5- أبو عبد الله القرطبي (المتوفى : 671هـ) ، الجامع لأحكام القرآن، 11 /224.
6 - الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، 19/349.
7- فال شعيب الأرناؤوط في " الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان"7 /165-166:" إسناده قوي وهو مكرر ما قبله. وأخرجه أحمد "1/310"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2" /389" من طريق هدبة بن خالد، بهذا الإسناد.
وأخرجه البزار "54"، والبيهقي "2 /389"، وأحمد "1 /310" من طريق عفان، عن حماد بن سلمة، به.
وأورده ابن كثير في تفسيره "5 /27" من رواية البيهقي، وقال: إسناده لا بأس به.
وأخرجه أحمد "1/309-310"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "11 /12280" من طريق أبي عمر الضرير، وأحمد "1 /310" من طريق حسن، والطبراني "11 /12279" من طريق أبي نثر التمار، ثلاثتهم عن حماد، به.
وزادا الرابع الذي نسي وهو شاهد يوسف وذكره الهيثمي في "المجمع" "1 /65" وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلفط.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" "4 /150"، وزاد نسبته إلى النسائي وابن مردويه.
وفي الباب عند ابن ماجه "4030" من طريق هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا سند حسن في الشواهد. سعيد بن بشير يتكلمون في حفظه، وهو محتمل.
8 - الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق شاكر: 11 /201.
9 - أبو المظفر السمعاني (المتوفى: 489هـ) ، تفسير القرآن، 3/342.
10 - ناصر الدين أبو سعيد، البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 4 /33.
11- الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، 16 /265.
12- بو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 1 /699.
13 - سيد قطب، في ظلال القرآن، 5/ 2597.
14- أبو البركات النسفي (المتوفى: 710هـ)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، 2 /563.