بُشْرَى للمنافقين
أبو محمد بن عبد الله
وما أوغلهم في صفة النفاق هذه التي تتمثل في أكبر أنواع الولاء ومظاهره؛ ألا وهي نصرة الكافرين اليهود والنصارى على المؤمنين، والمسرة بما يصيب المؤمنين، بل والدعاء بانكسار المقاومة وانتصار دولة "رجسة الخراب"!!
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
أيّة بشارة.. وَلِمَ؟
بشَّر الله تعالى المنافقين فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء:138-139].
تبدأ الحملة بهذا التهكم الواضح في استعمال كلمة {بَشِّر} مكان كلمة أنذر. وفي جعل العذاب الأليم الذي ينتظر المنافقين بشارة! ثم ببيان سبب هذا العذاب الأليم، وهو ولايتهم للكافرين دون المؤمنين؛ وسوء ظنهم بالله؛ وسوء تصورهم لمصدر العزة والقوة.
{بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} .
{أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا}.
والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود؛ الذين كان المنافقون يأوون إليهم؛ ويتخنسون عندهم، ويُبَيِّتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
والله جل جلاله يسأل في استنكار: لِمَ يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لِمَ يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله عز وجل بالعزة؛ فلا يجدها إلا من يتولاه؛ ويطلبها عنده؛ ويرتكن إلى حماه.
وهكذا تَكشف اللمسةُ الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى؛ وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة لله وحده؛ فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين!
ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها.. العبودية لله.. فإن لا تطمئن إليها النفس استُعْبِدت لقيم شتى؛ وأشخاص شتى؛ واعتبارات شتى، ومخاوفَ شتى. ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار..
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال.. ولمن شاء أن يختار..
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله. وما أحوج ناسًا ممن يدّعون الإسلام؛ ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين.. وإلا فإن الله غني عن العالمين!
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة. وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ. في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.
وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسًا يسمع فيه آيات الله يُكفر بها ويُستَهزأ بها، فيسكت ويتغاضى.. يسمي ذلك تسامحًا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانًا بحرية الرأي!!! وهي هي الهزيمة الداخلية تدُّب في أوصاله؛ وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسًا بالضعف والهوان!
إن الحمية لله، ولدين الله، ولآيات الله. هي آية الإيمان. وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد؛ وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار. وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمداً. ثم تهمد. ثم تخمد. ثم تموت!
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله. فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة. وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!
وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين - ذوي النفوذ - وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ. وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة.. حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها، هو أولى مراحل الهزيمة. وأراد أن يجنبهم إياها.. ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمراً بمقاطعة مجالس القوم إطلاقًا. فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها.. وإلا فهو النفاق، وهو المصير المفزع، مصير المنافقين والكافرين:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚإِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]
والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن :
{ إنكم إذاً مثلهم }..
والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد :
{إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً}..
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين، فيرسم لهم صورة زرية منفرة؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه؛ ويمسكون العصا من وسطها، و يَتَلَوَّوْنَ كالديدان والثعابين :
{الذين يتربصون بكم}.
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّـهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّـهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]
وهي صورة منفرة. تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر، وما يتربصون بها من الدوائر. وهم -مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون حينئذ:{ألم نكن معكم}؟..
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحياناً يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم!
{وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}..
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم؛ وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!!
وهكذا يَتَلَوَّوْنَ كالديدان والثعابين. في قلوبهم السم. وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين.. وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.
من الظلال مختصراً
وما أشبه اليوم بالبارحة؟! بل ليس فيه يومٌ وبارحة، وإنما هي ليلة طويلة دامسة الظلام على الأمة، قد ساهم أولياؤها في إطفاء شمعتها، فعاشت في الليل البهيم، ولكنَّا نرمق الفجر، لا من بعيد، ولكن من قريب إن شاء الله تعالى، فإن الله مهما طال؛ فلا بد من طلوع الفجر
وما أكثر المنافقين الذين يستحقون هذه البشارة إذن!
وما أوغلهم في صفة النفاق هذه التي تتمثل في أكبر أنواع الولاء ومظاهره؛ ألا وهي نصرة الكافرين اليهود والنصارى على المؤمنين، والمسرة بما يصيب المؤمنين، بل والدعاء بانكسار المقاومة وانتصار دولة "رجسة الخراب"!! بعضهم باللسان، وبعضهم بالسنان، وبعضهم صرح أمام شاشات العالم أنه يغطي تكاليف الحرب على غزة؛ بشرط أن يقضي اليهود على حماس، وبعضهم يقول الإخوان! وما بهم حماس ولا إخوان، وإنما الإسلام هو المقصود!
شمل ذلك: زعماء، علماء، إعلاميين....إلى قائمة تطول؛ لا أطالها الله.
والحُرّ تكفيه الإشارة، فضلاً عن مختصر العبارة.