[270] سورة الشعراء (6)
محمد علي يوسف
- التصنيفات: التفسير -
{كَلَّا}..
قالها الكليم وضيئة تتلألأ بأنوار العقيدة..
{كَلَّا}..
قالها حاسمة قاطعة لا شك فيها..
{كَلَّا}..
صفعة يقين على قلب كل مرجف واهن أكد بيأس أنهم مدركون..
صفعة بكلمةٍ من ثلاثة أحرف بدَّدت بنور الثقة بالله غيابات الإرجاف البادي من صياحهم..
وكيف لا يقولها وهو من ارتقى على درجات الثقة درجةً تلو أخرى..
كيف لا يقولها وقد تعلَّم الدرس مرةً بعد مرة..
تعلَّم أنه لا يخاف لدى الله المرسلون..
تعلَّم ألا يخاف وهو الأعلى بإيمانه..
تعلَّم أنه بآيات ربه ومن اتبعه الغالبون..
وتذكَّر الوعد الرباني..
الوعد الذي كلَّمه به ربه منذ أعوام مُخاطِبًا إِيَّاه وأخاه: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه من الآية:46]..
هذا الوعد الذي وجد قلبًا خصيبًا لتنمو فيه جذور الثقة المطلقة في مآل الأمر وتنبت منها شجرة طيبة من يقين راسخ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
وكان من أُكُلِها أن قال بعد حرفه الحاسم: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء من الآية:62]..
إنه يدرك معنى المعية؛ معية الملك الحق..
فكيف يخاف أو يشُك؟!
إن معه ربه يسمع ويرى..
لا شك إذًا أنه سيهديه..
لذا قالها بحزمٍ نافذ: {سَيَهْدِينِ}..
لكن كيف؟!
لا توجد أسباب..
مِن أمامهم بحرٌ لُجيِّ.. ثائر لا يأمن أصحاب السفن على أنفسهم فيه، فما بالك بقوم قد أجهدهم طول المسير في صحراء مصر الشرقية وقد جفت حلوقهم وجلودهم تحت حرّ شمسها، ولا مركب لهم إلا أقدام قد كلّت من عناء الرحلة..
ومن خلفهم طاغوت وجيش هادر لا همَّ لهم ولا غاية إلا إفناءهم..
من أين أتيت بهذا اليقين يا موسى؟!
دُلَّنا إذا على المفر وخبَّرنا بربك عن طريق النجاة..!
ومن أدراكم أنه يعرف بعد؟!
إنه يُصدِّق ربه، وهذا قد يسبق علِمه بالتفاصيل لكنه يوقن أنه سيعلم في الوقت المناسب..
وها قد عَلِم..
قد جاء الوحي..
وصل روح القدس القوي الأمين..
ها هي العصا ترتفع من جديد لا لتتحوََل هذه المرة إنما لتحوِّل..
لتَحوّل مغرقًا عميقًا، إلى ملاذ آمن، وسبحان من جعل المغرق ملاذًا، والملاذ مغرقًا!
نعم..
لقد كان الملاذ يومًا مغرقًا لولد نوح عليه السلام، فلم ينجه جبل آوى إليه ولم يعصِمه ارتفاعه من أمر الله..
وها هو المغرق يتحوَّل إلى الملاذ الوحيد الذي سيأوي إليه موسى عليه السلام وقومه..
مشهدٌ مهيب لم ترَ الدنيا مثله..
جبلان عظيمان من الماء كأنهما شلالان يهدران عن اليمين والشمال وبينهما أودية ضيقة يختلط طين أرضها بشعب مرجانية حادة يجاهد القوم في تفاديها والمرور من خلالها..
يا له من مشهدٍ ويا لها من آية!
لقد انشق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم..
مرَّ بنو إسرائيل يسارعون الخُطى، ولو نظر أحدهم إلى جبل الماء بجواره لربما أفزعه ظل قرش يتجوَّل، أو سرب مخلوقات بحرية يسبح بحثًا عن رزقه، ولا تفصل بينهم وبينه إلا أمتار..
لكن الله أراد لهم أن يمرُّوا..
وأن يأمنوا وينجوا.. وقد فعلوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابي: (العودة إلى الروح).