[321] سورة سبأ (1)
محمد علي يوسف
لو أن في الدنيا مثالًا، يقرب إلي أذهاننا جنة الفردوس؛ لكانت تلك القرية وأخواتها، لولا أن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خطر على قلب بشر!
- التصنيفات: التفسير -
لو أن في الدنيا مثالًا، يقرب إلي أذهاننا جنة الفردوس؛ لكانت تلك القرية وأخواتها، لولا أن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خطر على قلب بشر!
لكن ما لا شك فيه أن هذه الحدائق الغناء، والجو الصحو النقي، والنسيم العليل الذي تتمايل له أغصان الأشجار المثمرة؛ التي تستقر في تناسق بديع ملقية بظلالها على ضفتى النهر العظيم، والجداول التي تتفرع عنه وتنساب مياهها العذبة، بلطف لتسقي تلك الزروع الممتدة على اليمين والشمال سقاء لا يكاد ينفد، هي أقرب ما يقدح التصور الإنساني البسيط، إذا ما قرَّر أن يغلق عينيه، ويشرد بذهنه متخيلًا جنة الخلد، مشوقًا قلبه إلى لقياها.
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ من الآية:15]..
فقط عليكم الشكر..
هذا هو التكليف وذاك هو المطلب..
ووالله ما أيسره، وما أبعده عن التكلُّف..
وهل يملك من يتقلَّب في تلك الخيرات، وينهل من هذا النعيم، ألا يشكر من أنعم ويحمد من منَّ.
إن الشكر هاهنا فطرة، والحمد سجية، لا يملك القلب النقي إلا أن يصدع بها، فتقفز إلى لسانه، وتسري في جوارحه وتعتمل في أركانه؛ فيعمل شكرًا، وينطق حمدًا، ويسجد امتنانًا..
وهذا فقط ما قد طُلب منهم..
كلوا كما تشاءون، وانهلوا كما ترغبون، واستمتعوا ببلدتكم الطيبة كما تحبون..
ولكن فقط: اشكروا له، واحمدوه..
لا تنتقل سدودكم من بين جبالكم إلى قلوبكم، فتحجب ذلكم الامتنان المسارع إليها، كما يُحجب الماء ويُزم..
لحظة..
ما هذ الدوي الرهيب؟!
لكأني بصوت ألف صاعقة مدوية، نزلت على قريتنا الآمنة..
إنه السد العظيم العجيب الفريد؛ سد مأرب؛ انهار..!
لقد انهار مأرب!
صار ما بين طرفة عين وانتباهتها، أثرًا بعد عين..
هذا الغبار الذي يبدو من بعيد متعاليًا في الأفق، هو ما قد تبقى من السد العتيد!
ها هو الماء يندفع، بسرعة جنونية، من أعلى الجبل، مسابقًا الرياح، إلى سفح الجبل..
يا له من مشهد، ما أشد هوله..
الماء قادم، وما هي إلا دقائق حتى يغرق الوادي، وحدائقه الغناء وارفة الظلال وافرة الثمار..
ثمار؟!
أي ثمار؟!
هيهات هيهات..!
أَوَ بعد نزول الخراب وحلول الدمار؟!
وهل بعد الإعراض عن الشكر وكفور نعمة المنعم من ثمار؟
هيهات أهل سبأ؛ لقد انقطعت العادة واستقر الخراب!
ما أبقى السيل إلا على شجر الأراك؛ شجر الخمط، وما عاد بعد اليوم من حلو الثمار..
إنه الأثل، والسدر؛ النبق مرّ المذاق، شائك، لا يفي بحاجاتٍ أهل القرى، ولا لتحصيل الزاد..
من بعد السيل، لم يعد ينبت من أرضهم إلا تلك الزروع المرة التي يحوطها الشوك لبئس العذاب..
أين الظلال الوارفة؟!
أين النسيم العليل؟!
أين الخضرة التي لم تكن تلتفت يمنةً أو يسرة إلا وجدتها من حولك، على مرمى البصر؟
أين النقاء والطُهر الذي كان سمة البلاد؟
كل ذلك زال..
وكان من الممكن ألا يزول..
فقط إن شكروا وآمنوا..
لكنهم أبوا..
وها هي النتيجة ماثلة..
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور} [سبأ:17].