(54) المقاومة صدقٌ وإرادة قبل العدة والسلاح
مصطفى يوسف اللداوي
السلاح ضرورة، ولعله كان العامل الأهم في هذه الحرب، إذ فاجأ المقاومون العدو بأنهم كانوا على أعلى درجات الجاهزية والاستعداد، وأنهم قد تدرَّبوا جيدًا، واستعدوا كثيرًا، وامتلكوا من السلاح ما لم يكن يتوقعه، وصنعوا بأيديهم ما عجزوا عن إدخاله، وقاتلوه ببسالةٍ منقطعة النظير، وشجاعةٍ عِزَّ أن تكون لغيرهم، وأنهم كانوا يخرجون له من جوف الأرض فجأة، بهيئاتٍ مخيفة، وأسلحةٍ قاتلة، ووجوهٍ صلبةٍ، وعيونٍ واثقةٍ، وخطىً ثابتة، وكأنهم أشباحٌ تنشق عنهم الأرض تباعًا، ثم تعود فتبلعهم من جديد، ولكن بعد أن ينفذوا بدقةٍ تامةٍ، ويقينٍ بالنجاح، ما قد خرجوا من أجله.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
يتبجّح العدو الصهيوني أمام شعبه وفي وسائل الإعلام، أنه دمَّر أكثر من ثلثي مخزون المقاومة الفلسطينية من الصواريخ والأسلحة، وأنه اكتشف ودمَّر أغلب الأنفاق المؤدية إلى البلدات الإسرائيلية، وأن البنية التحتية لفصائل المقاومة قد تضرَّرت كثيرًا، وأنها تلقَّت ضربةً موجعة، طالت مخازن السلاح، ومنصات الصواريخ، والعقول المصنعة ومطلقيها، وأنه أصبح من الصعب عليها أن تستعيد عافيتها بسهولة، أو أن تُرمِّم قدراتها بسرعة، كما يستحيل عليها في ظل إغلاق الأنفاق من الجانب المصري أن تُعيد ملأ مخازنها، ولهذا فإن على المجتمع الدولي أن يبادر إلى اجتماعٍ مسؤول للتأكيد على نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وجعل قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح، قبل المباشرة في مشاريع إعادة إعماره، وفتح معابره، وتحسين ظروفه الاقتصادية، لئلا تتكرَّر مأساة السكان مرةً أخرى.
يعلم العدو الصهيوني أنه يكذب على شعبه ويخدعه، وأنه يُخفي عنه الحقيقة كلها أو بعضها، أو يُقسِّطها عليه على مراحل، لئلا يُصدَم ويُحبَط، أو يخيب في حكومته رجاؤه، ويفقد في جيش كيانه أمله، كما أنه يفرض على وسائل الإعلام رقابةً شديدة، لئلا تُسرِّب خبرًا، أو تؤكد نبأً، وهو إذ يكذب على شعبه، فإنه لا يصدق نفسه، وإنما يحاول أن يطمئن شعبه، ويُمني نفسه، بأنه قد انتصر وحقق أهدافه، وأنه يمضي وفق الخطة التي وضعها، وأن بنية المقاومة في قطاع غزة قد تضرَّرت، وأن الخطر المتوقع منها قد تراجع...!
إلا أن قادة جيش العدو لا يستطيعون إخفاء قلقهم، أو إنكار خوفهم مما لقيه جيشهم على أيدي المقاومة، وأنهم عندما يطمئنون الشارع الإسرائيلي فإنهم يتطلَّعون إليه ليمنحهم المزيد من الصبر والاحتمال، وأن يكون مهيأً لتلقي أي خبر، وتوقع أي نتيجة، فهم يواجهون صعوبة كبيرة في مواجهة المقاومة الفلسطينية، التي يبدو أنها مدربة ومهيأة، وأنها قد استعدّت جيدًا لهذه المواجهة، وأنه لديها ما تُفاجئ به الجيش، الذي لم يكن لديه الخبرة الكافية على خوض حروب الأنفاق، فضلًا عن فنون حرب العصابات التي أتقنتها المقاومة، بتكتيكاتٍ جديدة، وأسلحةٍ متطورةٍ، خطيرة وفتاكة.
إنها الحرب الرابعة التي يشنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة في غضون أقل من عشر سنواتٍ، وكان أرئيل شارون قد بدأها بعنفٍ شديدٍ، فجزأ القطاع، وعزله عن بعضه، ومنع تواصل سكانه، ودكّ مدينة رفح، وحفر أطرافها، وجعل عاليها سافلها، ودمَّر بلدات خانيونس وعاث فيها فسادًا، ونصب على طرقاتها الحواجز، وواصل الحرب من بعده أيهود أولمرت ومن جاء بعده، ولكن هذه الحروب وقد كانت جميعها قاسية وصعبة، واستخدم العدو فيها كل أسلحته المُدمِّرة، ولم يدخر جهدًا في القسوة على السكان، لم تستطع أن تضع حدًا للمقاومة، أو أن تنهي روح التحدي لدى السكان، بل إن كل جيلٍ كان يُسلِّم الراية لجيلٍ أشد وأقوى، وأصلب وأكثر ثباتًا.
ذلك ليعلم العدو الصهيوني وأقطاب حكومته المُتشدِّدة المُتطرِّفة، أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن المقاومة، ولن يقبلوا بالضعف، ولن يستسلموا لمحاولات القهر، وأن مساعيه لتجريدهم من سلاحهم، والقضاء على روح المقاومة عندهم ستبوء دومًا بالفشل، ولن تؤدي النتيجة المرجوة، ولن تحقق لهم الأمل المنشود، ولن يكون من بين الفلسطينيين من يقبل بموت المقاومة، ويُسلِّم بعجزه أمام قوة العدو، ويقبل منه لضعفه ما كان يرفضه دومًا، ذلك أن المقاومة روحٌ تسري، وعقيدة تسكن، ودماءٌ تجري، ووعيٌ كامن، وإرادة باقية، لا يمكن للقوة العمياء أن تقضي عليها، ولا للعنف الأهوج أن ينهي وجودها.
السلاح ضرورة، ولعله كان العامل الأهم في هذه الحرب، إذ فاجأ المقاومون العدو بأنهم كانوا على أعلى درجات الجاهزية والاستعداد، وأنهم قد تدرَّبوا جيدًا، واستعدوا كثيرًا، وامتلكوا من السلاح ما لم يكن يتوقعه، وصنعوا بأيديهم ما عجزوا عن إدخاله، وقاتلوه ببسالةٍ منقطعة النظير، وشجاعةٍ عِزَّ أن تكون لغيرهم، وأنهم كانوا يخرجون له من جوف الأرض فجأة، بهيئاتٍ مخيفة، وأسلحةٍ قاتلة، ووجوهٍ صلبةٍ، وعيونٍ واثقةٍ، وخطىً ثابتة، وكأنهم أشباحٌ تنشق عنهم الأرض تباعًا، ثم تعود فتبلعهم من جديد، ولكن بعد أن ينفذوا بدقةٍ تامةٍ، ويقينٍ بالنجاح، ما قد خرجوا من أجله.
لكن ما خُفِيَ على العدو الإسرائيلي وغيره، أن مقاومة الفلسطينيين في قطاع غزة، بكل أشكالها وأطيافها، وبشعبها الحاضن الصابر العظيم، ما كانت سِلاحًا فقط، ولا عتادًا فتاكًا، ولا أنفاقًا جديدة، بل كانت قبل هذا كله إرادةً من حديد، وتصميمًا لا يلين، وعزمًا جديدًا لا يعرف المستحيل، ويقينًا بالنصر واثقًا لا يتزعزع، وثباتًا على الأهداف لا يهتز ولا يتردَّد، وصبرًا عجيبًا يصنع المعجزات.
إنها إرادة الشعب الذي صنع السلاح، وحفر الأنفاق، وواصل إطلاق الصواريخ، واجتاز الحدود، والتف خلف خطوط النار، واقتحم المعسكرات، وتسلَّل إلى الثكنات، واشتبك مع القواعد والحراسات، وقاتل العدو من نقطة الصفر، ونال من هيبة الجيش والشعب، وهزأ الحكومة والقادة، وفضح الأنظمة والسادة، وكشف زيف الجمهوريات الممالك، وبين غدر الرؤساء والملوك، إنه لشعبٌ قادرٌ دومًا أن يكون الأقوى بإرادته قبل سلاحه، وبيقينه قبل عتاده، وبصدقه وإخلاصه قبل صواريخه ومعداته.
فلا يفرح العدو وهو الكاذب، ولا ينتشي وهو الخاسر، ولا ينفش ريشه وهو المنتوف ريشه، والمهزوم جيشه، والراحلة حكومته، والمحاكمة قيادته، ذلك أن المقاومة أقسمت أن تنتصِر، وستنتصِر دومًا بإذن الله، وسيرون منها ما لا يتوقعون، وأكثر مما كانوا يظنون.