انهض وبادر

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثّت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلاً فسل الموفق؛ فلن تنال خيرًا إلا بطاعته".

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحمد لله الذي قسَّم خلقه إلى تقي أواب، همته طلب الخيرات والاكتساب، وبغيته الزلفى إلى الله والاقتراب {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر:18].

وفاجر كذّاب همته مصروفة إلى اللهو والطعام والشراب، يُعمّر جسمه وقلبه خراب، فكيف إذا كُشف الحجاب، وحق عليه قول رب الأرباب: {وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى الآل والأصحاب. أما بعد؛

فإن ارتقاء الأمم وسموّها يكون بقدر ما عند بَنيها من قوة علمية نظرية، وقوة العزم والإرادة العملية، ولله في كونه سنن لا تتبدل ولا تتغير، ولا تجامل ولا تحابي؛ فمن جد وجد، ومن سار على الدرب وصل،

قلّ مَنْ جَدَّ في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب"
(اهـ).

وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثّت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلاً فسل الموفق؛ فلن تنال خيرًا إلا بطاعته".

"اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان في فناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا؟

فقالوا: ابدأ أنت، فقال: ولاية العراق، وتزوّج سكينة، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله؛ فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمس مائة ألف درهم وجهزها بمثلها.

وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحمل عنه الحديث فنال ذلك.
وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر رضي الله عنه الجنة ". وتلك همم القوم وآمالهم !
وآيات كتاب ربنا تعلي الهمم، وتزرع في النفوس قوة العزيمة؛ فهذه آيات من كتاب الله تعالى أرجو أن تتدبرها، ولن نعلق عليها فهي واضحة المعنى، بينة الأثر والمغزى:

يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران:133]. ويقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد:21].
ويقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11].

ويقول: {إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة:38].

ويقول: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير . هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:162-163].

ويقول عن دعاء المؤمنين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
ويقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].
ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].

وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تعلي الهمم:
- «إنّ الله تعالى يُحِبُّ مَعالِيَ الأُمُورِ وأشْرَافَها ويَكْرَهُ سفْسافها» (رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني).
- «عِنْدَ الله خَزَائِنُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ مَفَاتِيحُهَا الرِّجَالُ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَهُ الله مِفْتَاحاً لِلْخَيْرِ مَغْلاَقاً لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ الله مِفْتَاحاً لِلْخَيْرِ مغْلاَقاً لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ الله مِفْتَاحاً لِلشَّرِّ مِغْلاَقاً لِلْخَيْرِ» (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

- «إنّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءَوْن أهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كما تَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ في الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لِتَفاضُلِ ما بَيْنَهُمْ» (متفق عليه).

فلماذا الرضا بالدون؟!
لماذا لا نجتهد أن نكون أسبق الخلق إلى الله فنفوز بخيري الدنيا والآخرة؟!
قال رجل لمالك بن دينار رحمه الله: "رأيتُ فيما يرى النائم مناديًا ينادي: الرحيل الرحيل، فما رأيت أحدًا يرتحل إلا محمد بن واسع، فصاح مالك: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} ثم غشي عليه".
لماذا العيش في الدنيا بلا أهداف كبيرة، وربما بلا أهداف أصلاً؟!

لماذا يكون كل الهم أكلة وشهوة؟!

يا بائعا نفسه بيع الهوان لو استرجعت *** ذا البيع قبل الفوات لم تخب

وبائع طيب عيش ماله *** خطر بطيف عيش من الالام منتهب

غبنت والله غبنا فاحشا ولد ى *** يوم التغابن تلقى غاية الحرب

شاب الصبا والتصابى بعد لم يشب *** وضاع وقتك بين اللهو واللعب

وشمس عمرك قد حان الغروب لها *** والفىء فى الأفق الشرقى لم يغب

وفاز بالوصل من قد جد وانقشعت *** عن أفقه ظلمات الليل والسحب

كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت *** ورسل ربك قد وافتك فى الطلب


أخي: قم وانهض وبادر.
إذا لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنيا عاكفون.
قال بعض السلف: "إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل".
أخي.. قلّب ناظريك في هذا الكون في هذه الأرض، سترى أمتك وقد أحاطت بها الأعداء، وألمت بها المصائب، في كل وطن جرح، وفي كل زاوية حكاية تروي قصة الألم، ألا تحركك هذه الأحزان؟ ألا تشحذ همتك وتصنع فيك أخلاق الرجال؟

 

يــا أمـــتي عــار تــرّدد أنــنـا *** أبناء من سادوا الأنام وكانوا
والقـدس غارقة يمزقها الأسى  ***  ويـعـيـد رجع أنينها الجـولان
حتّامَ ينخر في عزائمنا الهوى *** وتــذيــبـنا الآهـات والأحـزان


أخي.. لتكن كلك للإسلام، فإنه دينك، لحمك، ودمك وعرضك:
 

  سر في الزمان وحدّث أننا نفـر ***  شمّ العـرايـن يوم الهـول نـُفتقد
عُـدنا إلى الله في أعماقنا قَبَس *** مـن الـسـمـوات لا يغــتـاله الأبـد

جـئـنا نعيـد إلى الإسلام عـزته  *** وفوق شُمّ الرواسي تُنصب العُمُد


شتان بين الهمتين:
فقد كان الأعرابي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله طعمة، بعد قليل تذهب فيما يخرجه ابن آدم، أما ربيعة الأسلمي رضي الله عنه غلام صغير، يعد للرسول صلى الله عليه وسلم وَضوءه، يقول: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: « سَلْ ». فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ». قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (رواه مسلم). وهذه هي الهمة!

أما محمد الفاتح العثماني رحمه الله تعالى؛ فإنه منذ نعومة أظفاره رُبِّي على حلم غال، وهدف عظيم: فتح "القسطنطينية"؛ فنشأ واضعًا بين عينيه هذا الهدف، حتى فتح الله على يديه.

أما صلاح الدين رحمه الله؛ فقد امتنع من الضحك حتى يحرر الأقصى وبيت المقدس، وتم له ما أراده، وطهر الله به بيت المقدس من رجس الاحتلال الصليبي بعد قرابة مائة عام من الاحتلال.

فهيا أيها الكرام؛ نتحلى بعزائم الرجال لعل الله يغيِّر بنا، ولنترك الراحة هنا؛ لنرتاح كثيرًا يوم نلقى الله.

 

وإذا كانت النفوس كبارًا  ***  تعبت في مرادها الأجساد

 

ماهر السيد