فلسطين قضية أمة، فأين الهِمَّة؟!

أيمن الشعبان

الحقيقة الكبرى والقضية العظمى، التي ينبغي أن ترسخ في عقول وأذهان وقلوب بل وتفكير المسلمين، والتي لا ينبغي التهاون فيها أو إغفالها والذهول عنها تحت أي ظرف، ولا بُدَّ لكل مسلم مراجعة نفسه وسلوكه ونهجه ومعتقده وعمله تجاهها؛ أن قضية الأرض الطيبة المقدسة المباركة هي قضية أمة بالكامل، منذ أن أوجد الله الخليقة على وجه الأرض حتى قيام الساعة، لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقُا برسالة السماء في بداية الزمان ووسطه وآخره.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - فقه الجهاد -

الحمد لله الكبير المتعال، المتفرد بصفات الكمال والجمال والجلال، يُعزُّ من يشاء ويُذّلُّ من يشاء وإليه المرجع والمآل، والصلاة والسلام على قائدنا رسول الله وعلى صحبه والآل، أما بعد:

في ظل أمواج متلاطمة من الفتن، تروج بالأُمَّة الإسلامية، حتى اختلف واضطرب وانقسم وتصارع في القضية الواحدة أبناء الوطن، وبرزت ألوان من المناهج والعقائد والطرائق والمِحن، حتى يحار فيها الحليم ويكاد العاقل أن يجنّ، وأُذهلت العقول وعَميت البصائر وأهملت وأُغفلت قضية فلسطين، حتى اعتصرت القلوب كمدًا من شدة الحسرات والأسى والألم.

الحقيقة الكبرى والقضية العظمى، التي ينبغي أن ترسخ في عقول وأذهان وقلوب بل وتفكير المسلمين، والتي لا ينبغي التهاون فيها أو إغفالها والذهول عنها تحت أي ظرف، ولا بُدَّ لكل مسلم مراجعة نفسه وسلوكه ونهجه ومعتقده وعمله تجاهها؛ أن قضية الأرض الطيبة المقدسة المباركة هي قضية أُمّة بالكامل، منذ أن أوجد الله الخليقة على وجه الأرض حتى قيام الساعة، لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقُا برسالة السماء في بداية الزمان ووسطه وآخره.

أول مدينة عرفت التوحيد مكة المكرمة، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، ومدينة القدس ثاني مدينة عرفت التوحيد، كما رجح الحافظ ابن حجر أن المسجد الأقصى وضع في زمن آدم عليه السلام، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام». قال: قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى». قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة».

في ذلك إشارة إلى أن الأرض المقدسة، ارتبطت ارتباطا قويا برسالة السماء في بداية الزمان، ثم تتابع أنبياء الله عليهم السلام بواجب الدعوة إلى الله على هذه الأرض؛ منهم إبراهيم ولوط عليهما السلام، وفيها ولد إسحق وإسماعيل عليهما السلام، وولد يعقوب وأولاده ومنهم يوسف عليهم السلام عليها، وعلى تلك الأرض المباركة أقام داود عليه السلام خلافة إسلامية على منهاج النبوة ومملكة على التوحيد، كانت عاصمتها بيت المقدس، أي أن الوحي كان يتنزل على أرض فلسطين يحمل رسالة الإسلام إلى الأنبياء والمرسلين ونقلها إلى بني الإنسان.

وبيت المقدس "ما فيه شبر إلا وقد صلى عليه نبي مرسل أو قام عليه مُقرَّب.. وتاب الله على زكريا وبشَّره بيحيى في بيت المقدس وكان الأنبياء عليهم السلام يقربون القرابين في بيت المقدس. وأوتيت مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء في بيت المقدس وولد عيسى عليه السلام وتعلم في المهد صبيًا في بيت المقدس ورفعه الله إلى السماء من بيت المقدس وأنزلت عليه المائدة في بيت المقدس. وأعطى الله البُراق للنبي صلى الله عليه وسلم تحمله إلى بيت المقدس" (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، ص: [239]).

ولِمَ لا تكون تلك الأرض المباركة المقدسة قضية أمة، وفيها أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد وضع في الأرض، وثالث مسجد يشد إليه الرحال، وفيها مسرى نبينا عليه الصلاة والسلام ومعراجه إلى السموات العلى، وفيها تضاعف أجور الصلوات، وصلى فيها نبينا عليه الصلاة والسلام إمامًا بجميع الأنبياء، في إشارة ودلاله لأهميتها وارتباط جميع الرسالات بها، "وهي مهبط الأنبياء ومعدنهم وقبورهم فيها، ومهد الرسالات، وفلسطين هي ملجأ ومأوى ومهجر الأنبياء الذين أوذوا واضطهدوا من أقوامهم، فقد هاجر إليها أبو الأنبياء إبراهيم ونبي الله لوط من العراق، وكذلك هاجر موسى إليها من مصر، وفيها يحسم الصراع مع الباطل ويقتل المسيح الدجال، وهي أرض المحشر والمنشر" (مقال القدس يا مسلمون أفلا تستفيقون؛ أيمن الشعبان).

ولِمَ لا تكون القدس قضية الأمة، وقد بورك فيها وبمن حولها، وفيها تضاعف أجور الصلوات، ويرجى لمن صلى في المسجد الأقصى أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه، وهي مبتغى الفاتحين ورباط المجاهدين، ومحل الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق إلى قيام الساعة، ولأهميتها بشَّر النبي عليه الصلاة والسلام بفتحها.

ولأن قضية المسجد الأقصى قضية أُمّة بأسرها؛ نذرت امرأت عمران ما في بطنها محرَّرًا لخدمة بيت المقدس، وتمنت أن يكون ذكرًا، في حرص شديد وقربان عظيم وتعلق منقطع النظير بتلك المقدسات، فرزقها الله سبحانه مريم عليها السلام وكانت سيدة نساء العالمين، قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:35-36].

ولأن الأرض المباركة قضية هامة جدا في حياة الأنبياء همّ موسى عليه السلام وسار لفتحها إلا أن قومه خذلوه، ثم سأل موسى عليه السلام ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، فكان قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر[1]، حتى قادهم إلى فتحها يوشع بن نون ولم تحبس الشمس لأحد إلا له.

إن أعظم وأعجب وأسرع رحلة عبر التاريخ، رحلة الإسراء والمعراج في وسط الزمان، التي أسري فيها بالنبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج إلى السموات العلى، ورأى من آيات ربه ما رأى، وفرض أعظم ركن بعد التوحيد فيها، ثم عاد إلى المسجد الأقصى وصلى إماما بجميع الأنبياء، كل ذلك لم يكن ليحصل لولا أهمية وفضل ومكانة تلك الأرض المقدسة وارتباطها الوثيق عبر الزمن برسالة السماء.

ولأن فلسطين قضية أمة، حذا نبينا عليه الصلاة والسلام -إمام الأنبياء وحبيب الرحمن وقدوة الأمة- حذو سائر الأنبياء فكان لتلك الأرض المقدسة همّ وحضور في حياته، فقد بشّر عليه الصلاة والسلام بفتحها، وعقد لواء لزيد بن حارثة في سرية عرفت بسرية مؤتة سنة 8 هـ، لمنازلة الروم المحتلين لأرض الشام بما فيها بيت المقدس، وغنم فيها القادة الثلاثة بالشهادة في سبيل الله وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وتسع من المسلمين.

وفي شهر رجب من العام 9 هـ خرج عليه الصلاة والسلام بنفسه إلى تبوك لمنازلة 40 ألف جندي روماني، ليؤكد أهمية أرض الشام وفضلها ويعطي توجيهًا عمليًا للأُمّة بضرورة شحذ الهِمَّة وبذل النفس من أجل بيت المقدس، وفرّ الروم وجبنوا عن مواجهته عليه الصلاة والسلام وكان هذا بمثابة إعلان من نبينا عليه الصلاة والسلام لأعداء الأُمّة ولأُمّة الإسلام على امتداد تاريخها "أيها المحتلون المغتصبون لأرض الإسلام قد آن الأوان لتحرير مقدساتنا".

وقبل وفاته عليه الصلاة والسلام عقد لواء أسامة بن زيد رضي الله عنه وجهته أرض فلسطين والقدس، واقتضت حكمة الله إكمال أبو بكر رضي الله عنه المسيرة، لكن الخطوة الأولى خشوا أن يبيتوا ليلة واحدة دون إمامة فأقاموا الخلافة الإسلامية وبعدها كان قرار قتال المرتدين وإمضاء بعث أسامة.

وتحرَّرت القدس وذهب عمر رضي الله عنه ليستلم مفاتيحها بعد 700 سنة من الاحتلال الرومي، وانكسرت شوكة الروم وانهاروا على أرض الشام كلها وتحرَّرت دمشق وحمص وحلب، وأوقف الخليفة عمر أرض بيت المقدس في إشارة بأن قضية القدس وما حولها من سائر أرض فلسطين قضية أُمّة، ولكي يستنهض الهِمَم وتبقى راسخة في أذهاننا ومخيلتنا في كل وقت وحين.

حتى في الحالات العصيبة وأحلك الظروف، كان المسلمون يستحضرون ما يجب عليهم من نصرة قضايا الإسلام المهمة وعِزَّة المسلمين، فهذا البطل التاريخي تقي الملوك ليث الإسلام ناصر أمير المؤمنين نور الدين محمود زنكي، عندما عَلِم ما حصل للمسلمين في بيت المقدس، سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة، إذ دخل ألف ألف مقاتل صليبي بيت المقدس، مكثوا فيه أسبوعًا يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفًا، منهم أئمة وعلماء ومتعبِّدون ومجاورون للمسجد الأقصى، ورُفِعت الصلبان وأُدخِلت الخنازير ونُودي من على مآذن المسجد أن الله ثالث ثلاثة! حتى صنعوا ما لا تصنعه وحوش الغاب وفعلوا الأفاعيل، حتى ظن الناس أن بيت المقدس لن يرجع إلى المسلمين أبدًا، لكن ماذا فعل نور الدين زنكي؟ هل اكتفى بالخطب الرنانة والشجب والتنديد والاستنكار على حدِّ قول القائل:

خطب وتهديد وما من ناصرٍ *** ومهازل تغني عن التبيان
يستنكرون ويشجبون ولا أرى *** طِحنًا فهل قد أخطؤوا عنواني؟!

أم جلس -حاشاه- يكتب البيانات ويرفع صوته بالتصريحات والجعجعات والمناشدات والنداءات؟!

لكنه رحمه الله لم يفعل ذلك، فشمَّر عن ساعد الجد وبنى أسوار مدن الشام وقلاعها، وبنى المدارس والمساجد ونشر التوحيد والعلم وقمع البدع، وقرَّب العلماء والصالحين ورفع من شأنهم، ونشر العدل وأنصف المظلومين، وأكثر من الأوقاف واهتم برعاية حقوق الناس ومصالحهم، وأخذ على عاتقه تحرير بيت المقدس فكان مهيبًا وقورًا، حتى قيل فيه "شديدٌ في غير عُنف، رقيقٌ في غير ضعف".

ذكر أبو شامة المقدسي في كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين): "أنه جاء إلى نور الدين ذات يوم جماعة من العلماء فقالوا: جئنا نروي عنك بسندٍ متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا مسلسلًا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم، فتبسّم نروِه عنك. فالتفت إليهم نور الدين والهم يعصر فؤاده وهو يقول: كيف ابتسم والمسجد الأقصى راسف في قيود الذل والهوان، تحت سنابك خيل الأعداء؟".

نور الدين رحمه الله الذي يرجع نسبه إلى السلاجقة الأتراك، أسس لمن بعده طريق ناصع لتحرير بيت المقدس، فأتم المشوار القائد الهمام صلاح الدين رحمه الله، الذي يرجع نسبه إلى الأكراد، ومن قبل ففاتح بيت المقدس عمر بن الخطاب قرشي النسب، لكن جمعهم همٌ واحد وقضية كبيرة، فمتى نسير على خطاهم؟!

وهكذا تبقى هذه القضية قضية أُمّة بأكملها، والصراع على أرضها صراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، يقول عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» (صحيح أبي داود).

وأشار عليه الصلاة والسلام أن الأُمّة التي تحمل هم هذه القضية، من تكون على منهاج الصحابة اعتقادا وقولا وعملا، لذلك قال عليه الصلاة والسلام مخاطبا الصحابة الكرام ومن هم على شاكلتهم ومن يمضي على طريقهم «تُقَاتِلُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ» (أخرجه البخاري).

لقد أيقن أعداء الإسلام وأعداء هذه القضية من اليهود ومن تحالف معهم، بأنه عندما يستشعر المسلمون حقيقة هذه القضية وأنها قضية أمة، فعند ذلك سوف يندحرون ويتغلب عليهم المسلمون، تقول غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان اليهودي (1969-1974)م: "نحن لا نخاف من المسلمين إلا عندما يصلون الفجر في المسجد كما يصلون الجمعة".

وتقول إحدى طوائف اليهود المتعصبة: "نحن نعلم أن نهايتنا على يد المسلمين وسوف يتكلَّم الحجر والشجر ويُخبِر المسلمين عن مكان وجودنا، ولكن ليسوا هؤلاء المسلمين في هذا الزمان، لانهم منشغلون عن صلاتهم باللهو واللعب".

مناقبٌ شهدَ العدو بفضلِها *** والفضلُ ما شَهدتْ به الأعداءُ

وعندما دخل اليهود القدس عام 1967م وأحرقوا المسجد الأقصى سأل أحد الصحفيين اليهود موشي ديان وزير الحرب الصهيوني حينها أن المسلمين يعتقدون في كتابهم القرآن أنهم سيدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة فما رأيكم؟

كان الجواب: "لا تقلق يا عزيزي فليس هذا هو الجيل الذي سيقوم بذلك، فسأله الصحفي قلقا فمتى سيحدث ذلك إذن؟ فأجاب ديان: سيحدث ذلك إذا رأيت عدد المصلين في صلاة الفجر يساوي عدد المصلين في صلاة الجمعة!".

فأعدائنا يعلمون أن الصراع على أرض فلسطين، هو صراع أُمّة بأكملها لا قومية ولا قطرية ولا فئوية ولا حزبية، في الوقت الذي تنكرنا وتنكبنا لأبسط وسائل النصرة والعزة، في زمن التطور والتكنولوجيا والابتكارات! فمتى ما حققنا ذلك وغرسنا في نفوسنا حقيقة الصراع فسوف نقلق مضاجع المحتلين، فكما أن للغاصبين المحتلين استراتيجيات كذلك للمحرِّرين إستراتيجيات، أولاها حقيقة استشعار المسؤولية وحمل الهمّ وإيقاظ الهِمَّة في جميع الأحوال والظروف، لأن صحة الانتهاء من صحة الابتداء.

فلا عذر لأي مسلم تحت أي ظرف، التواني والتخاذل والتقاعس عن استرداد الأرض السليبة، بكل الوسائل الشرعية والطُرق المرعية، وأضعف الإيمان استنهاض الهِمَّة وتحريك النفوس، وتثقيف الأجيال وتوجيههم التوجيه الصحيح، بكل ما يتعلَّق بهذا الصراع وما يراد لتلك الأرض من طمس لمعالِمها وانتقاص من قدسيتها وضياع لتاريخها، وتربية الأجيال تربية صحيحة ناضجة بعيدة عن ردود الأفعال المجردة، والعواطف والحماسة الوقتية، فقضيتنا قضية أُمة فأين الهِمَّة؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] (أخرج الحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام