انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها (2/1)
أن ديننا ينهى عن تلك الأفعال، وثبت أن سوس الجهل والأوهام يرتع ناخراً في فسطاط الخرافة، فما الذي يدفع مرتادي الأضرحة والمعتقدين فيها إلى ولوج هذا الكيان والتمسك به؟!
- التصنيفات: مذاهب باطلة -
تقديس القبور والأضرحة مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت نصوصه الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي يُمثِّل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً لتوهُّم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه: «الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود، [ح:1769])، وعنه: « » (أخرجه الإمام أحمد بن حنبل [2/246]، وصححه الألباني في تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، [ص:25]).
هذا في قبره الشريف وفي كل قبر، وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »" (أخرجه مسلم في الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور، وأبو داود والترمذي والنسائي).
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن « » وفي زيادة صحيحة لأبي داود: « » (أخرجه مسلم في الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر، وأبو داود، [ح:3226]، وانظر: صحيح سنن أبي داود للألباني، [ح:2763]).
ولعن «ا -أي القبور- » (أخرجه الترمذي وأبو داود والإمام أحمد، وقال أحمد محمد شاكر في تعليقه على (سنن الترمذي) [2/137]: "الشواهد التي ذكرناها ترفعه إلى درجة الصحة لغيره، إن لم يكن صحيحاً بصحة إسناده هذا"، وضعّف الألباني لفظ (السُرج)، انظر: الضعيفة، [ح:225]).
من النور إلى الظلمات:
وعلى ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان "ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدَثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرّقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المئة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القدّاحية في أرض المغرب، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج27، [ص:466]).
"ولم يكن في العصور المفضلة (مشاهد) على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك. ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة كمشهد علي رضي الله عنه وأمثاله" (المصدر السابق، [ص:167]).
"... وفي دولتهم أُظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة" (المصدرالسابق، [ص:466]).
فعندما بدأت المحدَثات تدب في حياة المسلمين، كان منها ذلك الأمر الجلل "فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد. ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفتُ عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنّف كبيرهم (ابن النعمان) كتاباً في (مناسك حج المشاهد)؛ وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب" (المصدر السابق: [ص:161-162]).
الرواد الأوائل:
وعلى ذلك يتضح أن الذين بذروا بذورَ شرك القبور كانوا رافضة، وهذا ما تؤكده لنا عالمة الآثار الدكتورة "سعاد ماهر فهمي" عندما تسرد أوائل الأضرحة ذات القباب، فتقول: "... ويليها من حيث التاريخ: ضريح إسماعيل الساماني (يُنتسب السامانيون إلى رجل فارسي يُسمّى (سامان)، كان مجوسياً واعتنق الإسلام أواخر عهد الدولة الأموية، وإسماعيل المذكور هو: إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، آلت زعامة السامانيين إليه عام 279هـ، وتوفي سنة 295هـ انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، ج6، [ص:91] [107])، المبني سنة 296 هـ في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام علي رضي الله عنه في النجف الذي بناه الحمدانيون سنة 317 هـ، ثم ضريح محمد بن موسى في مدينة قم بإيران سنة 366 هـ، ثم ضريح (السبع بنات) في الفسطاط سنة 400هـ، وقد احتفظت لنا جبّانة أسوان بمجموعة كبيرة من الأضرحة ذات القباب التي يرجع تاريخ معظمها إلى العصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري" (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، [ص:46]).
فبدايات تعظيم القبور واتخاذها مشاهد وأضرحة ارتبطت تاريخياً بأسماء: القرامطة، وبني بويه، والفاطميين (العبيديين)، والسامانيين، والحمدانيين. وجميعهم روافض وإن تفاوتوا في درجة الغلو (انظر: التاريخ الإسلامي، ج6، [ص:149]).
على أن الدكتورة "سعاد ماهر" تذكر لنا "أن أقدم ضريح في الإسلام أُقِيمَت عليه قبة يرجع إلى القرن الثالث الهجري، وقد عُرِف هذا الضريح باسم (قبة الصليبية)، ويوجد في مدينة سامرّاء بالعراق على الضفة الغربية لنهر دجلة إلى الجنوب من قصر العاشق، ويقول الطبري: "إن أم الخليفة العباسي استأذنت في بناء ضريح منفصل لولدها فأذن لها؛ إذ كانت العادة قبل ذلك أن يدفن الخليفة في قصره، فأقامت قبة الصليبية في شهر ربيع الثاني سنة 284هـ"، وقد ضم الضريح إلى جانب المنتصر الخليفة المعتز والمهتدي، وتُعتَبر قبة الصليبية -نسبة إلى موقع الضريح عند تقاطع طريقين- أوّل قبة في الإسلام" (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ج1، [ص:46]).
ولكن الدكتورة سعاد تذكر لنا الأضرحة (ذات القباب) فقط، ولا ندري هل كانت قبل قبة الصليبية أضرحة أخرى ليست ذات قباب أم لا؟
عانق الجبت مع الطاغوت:
على أن الذي يعنينا في هذا المقام هو أن (تقديس القبور والأضرحة) أمر حادث في الإسلام، وإحداثه لم يرتبط بأهل التقوى والعلم، بل ارتبط بأصحاب الدعوات الهدامة وأهل السلطان، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل ذلك في قوله تعالى عن أصحاب الكهف: {قَالَ الَذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} [الكهف من الآية:21]؛ فالذين أرادوا اتخاذ مسجد على قبور الفتية هم أهل الغلبة.
ولعلنا نلمح أن في ذلك جنساً من اتباع سَنَن من كانوا قبلنا في تعانق الجبت مع الطاغوت عند حدوث الانحراف العقدي، وذلك كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء من الآية:51]؛ حيث يتآزر دعاة الأوهام والخرافة مع أصحاب الطاعة والتشريع من دون الله، ويتبادلون الأدوار أحياناً، فتجد الكهان والمنجمين والسحرة يطلبون الطاعة ممن يؤمن بخرافاتهم ويُحلِّون له الحرام، ويُحرِّمون عليه الحلال، كما أنهم يمدون أصحاب السلطان والطاعة بالشرعية التي هم في حاجة إليها، وتجد أصحاب السلطان ممن يُطاعون في معصية الله يستشيرون الخرافيين ويقربونهم ويفسحون المجال للترويج لبدعهم بين الناس. ولا شك أن لكل ذلك أثراً في الواقع.
دينهم وديدنهم:
"كما أن مكانة القبور والأضرحة (المقدسة)! غير قابلة للمساومة في دين الرافضة؛ فطائفة البهرة الإسماعيلية (من غلاة الرافضة) ذات نشاط واسع في عمارة وتجديد المساجد ذات الأضرحة بحجة الاهتمام بالعمارة الإسلامية، وبخاصة في مصر. والقبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير في دمشق وهو القبر المنسوب إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما زال مكتوباً عليه إلى الآن: قام بعمارة البناية الضخمة عليه والمسجد حولها والقبة المزخرفة: محمد بن حسين نظام وأولاده من طائفة الشيعة" (انظر: شهر في دمشق، لعبد الله بن محمد بن خميس، [ص:67]).
وأيضاً فإن أصحاب الأضرحة الكبرى ممن يُنسَب إلى التصوُّف هم في الحقيقة من غلاة الشيعة الباطنية؛ حيث: "من العراق انطلق أحد أتباع الرفاعي إلى مصر، وهو (أبو الفتح الواسطي) (جدُّ إبراهيم الدسوقي) لنشر دعوتهم الباطنية بها، وقد كان ذلك في العهد الأيوبي، وبعد موت الواسطي جاء (البدوي) ليخلفه في دعوته تلك، وقد توزع هؤلاء الدعاة في مصر، فكان (الدسوقي) بدسوق و(أبو الحسن الشاذلي) بالإسكندرية، و(أبو الفتح الواسطي) ما بين القاهرة وطنطا والإسكندرية، ولما مات الواسطي حل محله البدوي بطنطا، وجميعهم من فلول العبيديين الذين طردهم صلاح الدين الأيوبي من مصر، ثم حاولوا العودة تحت ستار التصوُّف والزهد. كما أن كلاّ من ابن بشيش وابن عربي قد تتلمذا على يد (أبي مدين) بالمغرب" (بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، [ص:247]، نقلاً عن (السيد البدوي دراسة نقدية) للدكتور عبد الله صابر).
"وفي أواخر عهدهم أنشأ الفاطميون المشهد الحسيني عام 550هـ عندما شعروا بأن سلطتهم قد ضعفت ليجذبوا إليهم المصريين، وعهدوا إلى ابن مرزوق القرشي 564هـ تربية مريدي الصوفية، فانتظم أتباعه في طوائف وطرق لنشر الدعوة الشيعية؛ إلا أن هذه التنظيمات انهارت بانهيار الدولة الفاطمية وتحوّل المشهد الحسيني إلى ضريح صوفي" (عمار علي حسن، الصوفية والسياسة في مصر، [ص:88]).
والحاصل:
أن تقديس القبور وزيارة المشاهد تقليد شيعي في نشأته، فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور؛ حيث تتبعوا أو زعموا قبور من مات قديماً ممن يعظمونهم من آل البيت، وراحوا يبنون على قبورهم ويجعلونها مشاهد ومزارات، ثم جاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال، فجعلوا أهم مشاعرهم هو زيارة القبور وبناء الأضرحة والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات (انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، [ص:427]).
الحاجة أمّ الاختراع:
وأصبح تقديس القبور والأضرحة لازماً من لوازم الطرق الصوفية؛ بحيث لا يَتصور أحد وجود طريقة صوفية من غير ضريح أو أكثر تقدسه. ومع تمكن الداء من جسد الأمة ظهرت الحاجة إلى تعدد الأضرحة والمزارات لتلبي رغبات من صرعتهم الأوهام، وضاق بالقبوريين أن يتحرَّوا ثبوت قبور الأولياء المشهورين لدى جمهورهم، ولأن الحاجة أُمّ الاختراع كما يقال فقد وجدوا لهذه الأزمة بعض المخارج والحيل:
فظهر ما يُسمّى بأضرحة الرؤيا، تقول الدكتورة سعاد ماهر: "ظهر في العصور الوسطى وخاصة في أوقات المحن والحروب التي لا تجد فيها الشعوب من تلوذ به غير الواحد القهار أن يتلمسوا أضرحة آل البيت والأولياء للزيارة والبركة والدعاء ليكشف الله عنهم السوء ويرفع البلاء، ومن ثم: ظهر ما يعرف بأضرحة الرؤيا، فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا مؤداها أن يقيم مسجداً أو ضريحاً لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في الرؤيا فكان عليه أن يُقِيم الضريح أو المسجد باسمه" (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، [ص:102-103]).
وتلك كانت الدعوى نفسها التي أُقِيمَت عليها (مزارات الشهداء) عند النصارى: "وكان ذلك إبّان القرن الخامس الميلادي؛ حيث أصبح لكل قرية مزار لشهيد يحوي عظاماً لبعض الموتى المجهولين، أُخرِجَت من القبور، ومُنِحَت كل التبجيل والاحترام، دون أدنى دليل يثبت أنها على الأقل بقايا مسيحيين، ويُخلع على هذه الرفات أسماء وألقاب لائقة، وفي حالات كثيرة كان المرجع الوحيد في هذا الشأن حلم أو رؤيا لكاهن أو راهب" (موالد مصر المحروسة، لعرفة عبده علي، [ص:71]).
"وعلى ذلك لا يلزم أن يكون الولي المقام الضريح باسمه ثبت وجوده في ذلك المكان، بل لا يلزم أن يكون وطئت قدمه أرض تلك البلاد أصلاً، ومن هنا ظهرت أضرحة مزعومة ومكذوبة في طول البلاد وعرضها، وتعددت الأضرحة للولي الواحد في أكثر من قُطْر، ولتسويغ ذلك الخطل نسجوا خرافة واضحة الزور والبهتان، فقالوا: إن الأرض لأجسام الأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن متعددة ويزار كل مكان قيل عنه إنه فيه نبي كريم أو ولي عظيم" (الانحرافات العقدية، [ص:285]).
- "ومن الحيل الرائجة لإقامة ضريح أو مشهد: نسج الكرامات حول الشخص المزعوم بأنه ولي، أو حول المكان المزعوم بأنه مكان قبر ولي.
فمِّمَا ينسج حول الأشخاص: ما حدث مع الشيخ "صالح أبي حديد" الذي كان وبعض صحبه من قطاع الطريق، وحين كشف أمره هرب ولجأ إلى بيت مغنية مشهورة، فأخفته وادّعت أنه مجنون ووضعت في رجليه قيداً من حديد، وقد اعتقل لسانه من شدة الخوف، ثم أشاعت هي والمجتمعون من حوله أن له كرامات وإخباراً بالمغيبات، فأقبل عليه الناس بالهدايا والنذور حتى ذاع صيته، وزاره الخديوي إسماعيل واستبشر به وبنى له قبراً بقبة عالية بعد وفاته ووقف عليه الأرض وغيرها" (انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، د. زكريا سليمان بيومي [ص:125]، والانحرافات العقدية، [ص:299-300]، وبدع الاعتقاد [ص:267]).
ومن ذلك: "مسجد في حلب يعرف بمسجد العريان، يعتقده أهل المحلة الموجود بها، ويقولون: إنه عرف بالعريان؛ لأنه في أكثر أوقاته يتجرَّد من ثيابه، ويدّعون أن ذلك لغلبة الحال عليه" (انظر: الانحرافات العقدية، [ص:300]).
الواقع الأليم؛ شبكة أضرحة:
ولغفلة جموع كثيرة من الأمة عن حقيقة دينها فقد أنبتت هذه الجذور شبكة واسعة من القبور والأضرحة (المقدسة) عمَّت معظم أنحاء العالم الإسلامي، بل إن بعض الباحثين يُقدِّر عدد الأضرحة في القطر الذي يعيش فيه بما لا يقل عن عدد المدن والقرى في هذا القطر، حيث يقول: "وأضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر ونحو ستة آلاف قرية: هي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين، ويمكننا القول: إنه من الصعب أن نجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر" (عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، [ص:7]).
بل أصبحت القرى التي تخلو من الأضرحة مثار تندر وتهكم سدنة الأضرحة، فقد ذكر الدكتور زكريا سليمان بيومي أن من القرى التي تخلو من أضرحة الأولياء: (بِيّ العرب) و(أبو سنيطة) و(ميت عفيف) وهي جميعاً مركز الباجور منوفية، وأطلق المشايخ أمثلة شعبية على بخل هذه القرى وخلوها من البركة ما زالت سارية بين الناس حتى الآن! (انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، [ص:126]).
ولكي ندرك حجم المأساة أكثر سنورِد بعض ما تيسّر من نماذج توضح حجم انتشار هذه الأضرحة في بعض بقاع العالم الإسلامي، وبالطبع، فليس من بلد به ضريح إلا وله مريدون ممن يعتقدون فيه.
فمن بين ألوف الأضرحة المنسوبة إلى الأنبياء والصحابة والأولياء في العالم الإسلامي يشتهر في مصر من بين أكثر من ستة آلاف ضريح "على تقدير من أشرنا إليهم أكثر من ألف ضريح" (د. سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، [ص:44]).
"ويذكر صاحب الخطط التوفيقية علي باشا مبارك أن الموجود في زمنه في القاهرة وحدها مئتان وأربعة وتسعون ضريحاً" (الانحرافات العقدية، [ص:293]).
أما خارج القاهرة فيوجد "على سبيل المثال في مركز فوّة (81) ضريحاً، وفي مركز طلخا (54)، وفي مركز دسوق (84)، وفي مركز تلا (133)، وهي الأضرحة التابعة للمجلس الصوفي الأعلى، بخلاف الأضرحة التابعة للأوقاف أو غير المقيدة بالمجلس الصوفي" (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، [ص:127-153]).
"كما يوجد في أسوان أحد المشاهد يُسمّى مشهد" (السبعة وسبعين ولياّ) (انظر: الآثار الإسلامية في مصر من الفتح العربي حتى نهاية العصر الأيوبي، مصطفى عبد الله شيحة، [ص:152]).
وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى، وكلما فخم البناء واتّسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره وكثر زواره. فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة: ضريح الحسين، وضريح السيدة زينب، وضريح السيدة عائشة، وضريح السيدة سكينة، وضريح السيدة نفيسة، وضريح الإمام الشافعي، وضريح الليث ابن سعد. وخارج القاهرة تشتهر أضرحة: البدوي بطنطا، وإبراهيم الدسوقي بدسوق، وأبي العباس المرسي بالإسكندرية، وأبي الدرداء بها أيضاً، وأبي الحسن الشاذلي بقرية حميثرة بمحافظة البحر الأحمر، وأحمد رضوان بقرية البغدادي بالقرب من الأقصر، وأبي الحجاج الأقصري بالأقصر أيضاً، وعبد الرحيم القنائي بقنا.
أما في الشام فقد أحصى عبد الرحمن بك سامي سنة (1890م) في دمشق وحدها 194ضريحاً ومزاراً، بينما عد نعمان قسطالي المشهور منها 44 ضريحاً، وذكر أنه منسوب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً، لكل واحد منها قبة ويزار ويتبرَّك به.
وفي الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية كان يوجد 481 جامعاً يكاد لا يخلو جامع فيها من ضريح، أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في الآستانة (القسطنطينية).
وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس.
وفي بغداد كان يوجد أكثر من مئة وخمسين جامعاً في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح، وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع، وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة (انظر: الانحرافات العقدية، [ص:289]، [294-295]).
وفي معظم مناطق أوزبكستان كثير من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة والمشائخ ورجال العلم والأولياء، وأصبحت هذه القبور مزارات يفد إليها مريدوها جماعات وأفراداً، يدعون ويبكون، ومن أهم تلك المزارات ضريح قثم بن العباس ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم في سمرقند، وضريح الإمام البخاري في قرية خرتنك (انظر: مجلة (دراسات إسلامية) العدد الأول سنة 1418هـ، مقال (مسلمو أوزبكستان)، لعبد الرحمن محمد العسيري، [ص:217-218]).
بين الحقيقة والوهم:
"وإذا كان ذكر أسماء الأضرحة المشهورة في العالم الإسلامي قد يشق على المتابع فسنذكر هنا طرفاً من الأضرحة المكذوبة والمشكوك في نسبتها: فضريح الحسين بالقاهرة "كِذِبٌ مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم" (مجموع الفتاوى، ج27، [ص:451]، وانظر: [ص:465]).
"فإنه معلوم باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمئة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمئة. فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين رضي الله عنه قول بلا حجة أصلاً" (المصدر السابق، [ص:456]).
وقد ورد عن المشائخ: "ابن دقيق العيد وابن خلف الدمياطي وابن القسطلاني والقرطبي صاحب التفسير وعبدالعزيز الديريني إنكارهم أمر هذا المشهد، بل ذكر عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد مبنيٌ على قبر نصراني" (المصدر السابق، [ص:485]، [ص:493]).
"وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة هناك ضريح آخر في سفح جبل الجوشن غربي حلب يُنسَب إلى رأس الحسين رضي الله عنه أيضاً، وهو من أضرحة الرؤيا، وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين: في دمشق، والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أُمّه فاطمة رضي الله عنها، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنه، وفي كربلاء حيث يقال: إنه أعيد إلى جسده" (انظر: الانحرافات العقدية، [ص:288]، ومجلة (لغة العرب)، ج7، السنة السابعة (1929م)، [ص:557-561]، ومعالم حلب الأثرية، عبد الله حجار).
ورغم أن المحققين يقولون إن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ماتت بالمدينة ودفنت بالبقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق هو "القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه" (عبد الله بن محمد بن خميس، شهر في دمشق، [ص:67]).
"ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا بسنوات معدودة كما يذكر أحمد زكي باشا" (سمير شاهين، الوثنية في ثوبها الجديد، [ص:81]).
ويقول علي مبارك في الخطط التوفيقية: "لم أرَ في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات" (المصدر السابق).
وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج2، [ص:33]).
"ومن أضرحة الرؤيا: "مشهد السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم بالقاهرة، أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وذلك بلا خلاف" (مصطفى عبد الله شيحة، مرجع سابق، [ص:143]).
ومنها كذلك: "ضريح السيدة سكينة بنت الحسين ابن علي رضي الله عنهم" (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، [ص:102]).
ويذكر المقريزي في خططه (2/45)؛ جملة من الأضرحة المزعومة، منها: "قبر في زقاق المزار تزعم العامة ومن لا علم عنده أنه قبر يحيى بن عقب، وأنه كان مؤدباً للحسين بن علي بن أبي طالب، وهو كذب مختلق وإفك مفترى، كقولهم في القبر الذي بحارة برجوان إنه قبر جعفر الصادق، وفي القبر الآخر إنه قبر أبي تراب النخشبي. إلى غير ذلك من أكاذيبهم" (عن مقال: تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين، لحسين أحمد أمين، مجلة العربي، ع/226، رمضان 1397هـ، [ص:135]).
ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف بالعراق، وقد مرّ بنا سابقاً كلام ابن تيمية رحمه الله من أنه: "قبر مكذوب، وأن علياً رضي الله عنه دُفِنَ بقصر الإمارة بالكوفة" (انظر أيضاً: مجموع الفتاوى ج27، [ص:493]).
"وفي البصرة عدد من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة منها: قبر عبد الرحمن بن عوف رغم أنه مات بالمدينة ودفن بالبقيع" (الانحرافات العقدية، [ص:291]).
"وفي بلدة الرها من أعمال حلب ضريح يقال إنه لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما مع أن جابراً توفي في المدينة" (المصدر السابق، وانظر: مجموع الفتاوى، ج27، [ص:494]).
"وفي مدينة نصيبين بالشام -حالياً بجنوب تركيا- قبة يزعمون أنها لسلمان الفارسي، مع أنه رضي الله عنه مدفون في المدائن" (المصدر السابق، [ص:290]).
ويضيف ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال: إنه قبر أُبَيّ بن كعب، وقد اتفق أهل العلم على أن أُبيّاً لم يقدم دمشق، وإنما مات بالمدينة، فكان بعض الناس يقول: إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد. فلا يستبعد أنهم -أي: النصارى- ألقوا إلى بعض جُهَّال المسلمين أن هذا قبر من يعظِّمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه" (مجموع الفتاوى، ج27، [ص:460]).
وما لم يستبعده رحمه الله حدث مثله في العصر الحاضر "ففي الجزائر كان الشعب هناك يؤم ضريحاً في بعض المناطق الشرقية ويتبرك بأعتابه، ثم اكتُشف أن هذا القبر كان لراهب مسيحي، ولم يصدق الناس ذلك حتى عثروا على الصليب في القبر" (الانحرافات العقدية، [ص:288]).
وفي دمشق أيضاً: "قبور منسوبة إلى أمهات المؤمنين: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة رضوان الله عليهن مع أنهن مدفونات بالمدينة المنورة، وفيها كذلك قبر لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع أنها ماتت في مكة بعد مقتل ولدها عبد الله بن الزبير بأيام قليلة" (انظر: السابق، [ص:290]، ومجموع الفتاوى، ج27، [ص:170]).
ويُنسَب الناس في الشام قبراً إلى (أم كلثوم) و(رقية) بنتي رسول الله "وقد اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة تحت عثمان، وهذا إنما هو بسبب اشتراك الأسماء؛ لعل شخصاً يُسمّى باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن الجهال أنه أحد من الصحابة" (مجموع الفتاوى، ج27، [ص:494]).
ومنها (قبر خالد) بحمص، يقال: "إنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية، ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد: ظنوا أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك: هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد" (المصدر السابق، [ص:492]).
"ولعل لهذا السبب أيضاً وجد ضريح (سيدي خالد بن الوليد) بكفر الحما مركز أشمون منوفية بمصر، وضريح (الشيخ عمار بن ياسر) بناحية بني صالح تبع مركز الفشن" (انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، [ص:159]، هامش4، [ص:138]).
انفراط العقد:
"وفي دمشق كذلك ضريح يَدَّعي الناس أنه لرأس يحيى بن زكريا عليهما السلام يقع في قلب المسجد الأموي، وله قبة وشباك، وله نصيبه من التمسح والدعاء، وبجانب المسجد الأموي قبر القائد صلاح الدين الأيوبي، وإلى جانبه في القبة قبر عماد الدين زنكي، وقبور أخرى تُزار ويتوسل بها. وفيها قبور أخرى كثيرة كقبر زيد بن ثابت، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والراجح أنه قبر معاوية بن يزيد بن معاوية، أما قبر معاوية الصحابي فقيل إنه بحائط دمشق الذي يقال إنه قبر هود عليه السلام، وفي دمشق أيضاً قبور كثير من التابعين والقواد العظماء، ومعظم ما يقال عن هذه القبور تخرُّصات وتكهنات معظمها من وضع الشيعة والصوفية، وإلا فليس هناك دليل مادي يثبت قبر كل فرد بعينه" (انظر: عبد الله بن محمد بن خميس، شهر في دمشق، [ص:66]، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج27، [ص:447]، [ص:491]).
"وإضافة إلى ضريح دمشق المنسوب ليحيى بن زكريا عليهما السلام فإن له مزاراً آخر في صيدا جنوب لبنان في قمة جبل يُشرِف على البلد والبحر، وله أيضاً مقام ثالث في الجامع الأموي بحلب؛ حيث توجد حجرة تعرف بـ (الحضرة النبوية) يقال إن بها رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام في صندوق جرن، وقيل إن بها عضواً من أعضاء نبي الله زكريا عليه السلام في صندوق مرمر" (الانحرافات العقدية، [ص:278-279]).
"وفي حلب أيضاً صورة مسجد يعرف بمسجد النبي، منسوب إلى نبي يُدعَى كالب بن يوفنا من سبط يهوذا" (المصدر السابق، [ص:284]).
"ونحو الجنوب إلى معان بشرقي الأردن يوجد مزار النبي هارون، ولا يوجد عند أهل هذه الناحية مقام أشد إكراماً ولا أوفر آياتٍ منه! كما يوجد في شرقي الأردن أيضاً مقام النبي هوشع (يوشع) على قمة جبل بالقرب من السلط، وهو مبني بحجارة قديمة يرتئي الباحثون أن أكثرها يرتقي إلى عهد الصليبيين! كما يوجد في غربي الكرك مزار النبي نوح، وفي بادية البلقاء وموآب يوجد مقام (الخضر الأخضر)" (انظر: المزارات في شرقي الأردن، بقلم الخوري بولس سلمان، مجلة المشرق، 11/11/ 1920م، [ص:902-910]).
"كما يوجد ضريح آخر للخضر عليه السلام في مغارة بمعرَّة النُّعمان بشمال سورية بالشام، ويوجد بها كذلك ضريح آخر ليوشع عليه السلام، وفي معرة النعمان أيضاً يوجد ضريح شيث عليه السلام، مع أن هناك جامعاً كبيراً في الموصل يُسمّى بجامع النبي شيث داخله ضريح يعتقد الناس أنه مدفون فيه، ولم يكن هذا القبر معروفاً قبل القرن الحادي عشر للهجرة، حيث رأى أحد ولاة الموصل في ذلك القرن مناماً يدل على موضع القبر، فبنى الضريح" (انظر: الانحرافات العقدية، [ص:282-283]).
"ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود عليه السلام بجامع دمشق، فإن هوداً لم يجيء إلى الشام" (انظر: مجموع الفتاوى ج27، [ص:491]، [ص:484]).
وهناك قبر منسوب إليه في حضرموت، وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح عليه السلام، رغم أنه مات بالحجاز، وله أيضاً عليه السلام قبر في يافا بفلسطين، التي بها كذلك مزار لأيوب عليه السلام (الانحرافات العقدية، [ص:283]، [ص:281]).
"ويونس عليه السلام له ضريح في بلدة حلحول بفلسطين، وضريح آخر بقرية نينوى قرب الموصل بالعراق، وثالث في غار بضيعة قرب نابلس بفلسطين، وكلها يُدّعى أن فيها قبره عليه السلام" (انظر: السابق، [ص:281]، [ص:282])، وفي نابلس أيضاً ضريح الأسباط إخوة يوسف عليه السلام، وله عليه السلام قبر في مسجد الخليل بمدينة الخليل بفلسطين، وفي المسجد نفسه ضريح إبراهيم عليه السلام، وكذا: أضرحة تنسب إلى إسحاق ويعقوب عليهما السلام (المصدر السابق، [ص282]، [ص:281]).
ورغم وجود مزار لداود عليه السلام في قضاء كلّز من أعمال حلب بسورية، إلا أن له مزاراً آخر في جنوب غرب صيدا بلبنان، التي في جانبها الشرقي مزار شمعون يزعم الناس أنه من أنبياء بني إسرائيل، وله نفسه مزار آخر في قضاء كلّز أيضاً، وفي صيدا أيضاً مزار (صيدون) يزعم الناس أيضاً أنه من أنبياء بني إسرائيل (المصدر السابق، [ص:281]، [ص:280]).
وذكر الفيروزآبادي في تعريفه لبلدة قرب نابلس تُسمّى (عَوْرَتا): "قيل بها قبر سبعين نبياً، منهم: عزير، ويوشع" (القاموس المحيط، مادة (ع و ر).
وبعد هذا السرد إليك ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في نسبة قبور الأنبياء، فقد حكى عن طائفة من العلماء "منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء، لا يصح شيء منها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت غيره أيضاً قبر الخليل عليه السلام" (مجموع الفتاوى، ج27، [ص:446]).
ويقول أيضاً: "وأما قبور الأنبياء: فالذي اتفق عليه العلماء هو قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قبره منقول بالتواتر، وكذلك قبر صاحبيه، وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره. ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين" (المصدر السابق، [ص:444]).
وماذا بعد؟
ولم يقف الأمر عند حد نسبة القبور زوراً إلى شخصيات لها نصيبها من الحب والاحترام لدى الناس، بل وصل الادعاء إلى اختلاق بعض هذه الشخصيات من الوهم والعدم ونسبة الأضرحة إليها، فمن ذلك: قبر في طريق بلدة (طورخال) بتركيا لصحابي أسموه (كيسك باش)! (وفي معرة النعمان ضريح لرجل يُدعَى عطا الله) يزعمون أنه صحابي أيضاً" (انظر: الانحرافات العقدية، [ص:290-291]).
"وذكر المقريزي أن في القاهرة قبراً على يسرة من خرج من باب الحديد ظاهر زويلة، يزعمون أنه لصحابي يُدعَى: زارع النوى"! (حسين أحمد أمين، مرجع سابق).
وفي مدينة الشهداء بمصر ضريح داخل مسجد منسوب إلى (شبل) بن الفضل بن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم أن المصادر العلمية تتفق على أن الفضل بن العباس رضي الله عنه لم ينجب إلا بنتاً واحدة اسمها (أم كلثوم) (انظر: الوثنية في ثوبها الجديد، سمير شاهين، [ص:82]).
وأخيراً:
فإننا ربما لا ننتهي إذا حاولنا استقصاء حقيقة القبور والأضرحة المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، والتي على فرض ثبوت صحة نسبتها فإن إقامة المساجد عليها وممارسة الأفعال التي اعتاد الناس على القيام بها حولها. ليس من دين الله في شيء، بل يقع معظمه في دائرة المحرَّمات بدرجاته المختلفة، ومنها ما قد يصل إلى حد الشرك المخرج من الملة.
ولكن إذا ثبت أن ديننا ينهى عن تلك الأفعال، وثبت أن سوس الجهل والأوهام يرتع ناخراً في فسطاط الخرافة، فما الذي يدفع مرتادي الأضرحة والمعتقدين فيها إلى ولوج هذا الكيان والتمسك به؟!
● انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها (1/2)
● انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها (2/2)
● البيان تنشر -ملف خاص- (الخطر الإيراني يتمدد)
خالد بن محمد حامد